إذا كنت من المهتمين بمتابعة الظواهر الفلكية ورصد الأجرام السماوية والمجرات البعيدة، فلا شك أنك واجهت يوما مشكلة "التلوث الضوئي"، كأن يعترض ضوء قمر صناعي عدسة تلسكوبك، ليعكس الضوء كما تفعل المرآة.
وباتت السماء تعج بآلاف الأقمار الصناعية اللامعة التي تسرق سواد الليل، وتربك أعين العلماء، مسببة ضجيجا بصريا متزايدا، وهي المشكلة التي يستعد فريق من الباحثين في المملكة المتحدة لمواجهتها عبر إطلاق قمر صناعي مكسو بأسود مادة عرفها الإنسان، وهي "فانتابلاك"، تلك المادة الشهيرة التي تمتص 99.965% من الضوء الساقط عليها.
ويأمل الباحثون أن تثبت هذه التجربة نجاعتها، بما يمهد لتعميم استخدامها مستقبلا، في محاولة لاستعادة ظلمة السماء المهيبة، التي تحتاجها البشرية لفهم أعمق للكون.
القمر الصناعي الجديد، الذي يحمل اسم "جوفيان-1″، من المقرر إطلاقه عام 2026، ويبلغ حجمه تقريبا حجم علبة أحذية، وتكمن مهمته في اختبار قدرة مادة "فانتابلاك" الخارقة على تقليل الانعكاسات الضوئية الصادرة عن الأقمار الصناعية، وهي ظاهرة تزداد بشكل مقلق في سماء الليل، ما يعطل عمل المراصد الفلكية حول العالم.
مع وجود أكثر من 14 ألفا و900 قمر صناعي يدور حول الأرض اليوم، والتوقعات بارتفاع هذا العدد إلى أكثر من 100 ألف خلال العقود المقبلة، بفعل "الأسراب الفضائية" التجارية مثل شبكة "ستارلينك" التابعة لشركة سبيس إكس، تتفاقم التحديات أمام الفلكيين.
وتتمثل أبرز هذه التحديات في الانعكاسات الضوئية الصادرة من الأقمار المعدنية، التي تضيء السماء وتؤثر سلبا على جودة الرصد، وقد ازداد الوضع سوءا مع إطلاق أقمار صناعية فائقة السطوع، مثل سلسلة "ألف شراع" الصينية، التي تتجاوز بكثير حدود اللمعان التي توصي بها الجهات الفلكية.
وللتصدي لهذه المشكلة، تعاونت جامعات سري وساوثهامبتون وبورتسموث ضمن مشروع مشترك يعرف باسم "جوبيتر" لإطلاق القمر الجديد، حيث تم تزويده من أحد جوانبه بمادة "فانتابلاك 310″، وهي نسخة معدلة من المادة الأصلية صممت خصيصا لتحمل تقلبات درجات الحرارة والإشعاع الكوني في مدار الأرض المنخفض.
وصرّحت شركة "سري نانوسيستمز"، المنبثقة عن جامعة سري والمطورة للمادة في بيان صحفي رسمي أن "فانتابلاك 310، توفر أداء بالغ السواد من مختلف الزوايا، دون أن تتأثر ببيئة الفضاء القاسية".
ويقول كيران كليفورد، كبير التقنيين في الشركة وقائد المشروع: "هدفنا من هذا الطلاء هو ضمان وصول مستدام ومنصف إلى سماء ليلية مظلمة للجميع".
ورغم أن الطلاء الأسود قد يُسهم في الحد من التلوث الضوئي، إلا أن هناك تحديات أخرى، أبرزها التداخل الإشعاعي (الراديوي)، الذي تصدره الأقمار، مما قد يهدد مستقبل علم الفلك الراديوي من على سطح الأرض.
كما أن الزيادة الهائلة في عدد الأقمار الصناعية ترفع من احتمالات التصادم الفضائي، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلة الحطام المداري.
ولا تزال الآثار البيئية الناجمة عن احتراق الأقمار عند عودتها للغلاف الجوي، بما تطلقه من معادن وجزيئات، قيد الدراسة والفهم.
وفي ظل هذه التحديات، يمثل مشروع "جوفيان-1″ خطوة واعدة نحو استعادة سماء ليلية أكثر صفاء، وإذا أثبتت المادة فعاليتها في المدار، فقد يصبح طلاء الأقمار بـ"فانتابلاك" خيارا معتمدا في تصميم المركبات الفضائية المستقبلية، للحد من آثارها السلبية على الرصد الفلكي، وتمكين العلماء من استكشاف أعماق الكون بعيون أوضح.