آخر الأخبار

عمى الذاكرة.. قصة احتفاء بإنسان يُبعث من رماد الحرب

شارك

غالبا ما يرى المتابعون الحرب من زاويتها الإخبارية أو السياسية، لكنّ لها بعدا آخر إنسانيا هو الأشد قسوة والأكثر ألما، حيث يفقد فيه الإنسان ذاته قبل أن يفقد بيته، وتُصاب ذاكرته بالعمى كما تُصاب الأرض بالخراب.

ومن هذه الزاوية، تأتي رواية "عمى الذاكرة" للروائي اليمني حميد الرقيمي، بوصفها واحدة من أبرز الأصوات السردية الجديدة التي تلتقط مأساة الحرب اليمنية، وتحوّلها إلى حكاية إنسانية نابضة بالألم والأسئلة، ضمن مشروع روائي عربي معاصر يسعى إلى تفكيك أثر الحروب على الإنسان الفرد، لا على الجغرافيا وحدها.

تُفتتح الرواية، الصادرة عن دار جدل للنشر والتوزيع، بمشهدٍ كثيف يجمع بين الرصاص والركام والطفولة الممزقة، حيث ينجو طفل من تحت الأنقاض بعد قصفٍ عشوائي يطيح بعائلته، فيُنتشل من بين الجثث على يد شيخٍ عجوز يدّعي أنه جده، ويمنحه اسما جديدا هو "يحيى".

هذه الولادة الثانية تُغلق عليه ذاكرته الأولى، وتُؤسّس لرحلته الطويلة في البحث عن ذاته الضائعة. حين يبلغ الشاب، ويكتشف سرّ طفولته المنسية، يبدأ صراعا داخليا بين ما عاشه وما لا يتذكره، بين هويته الجديدة وتاريخه الغائب. وهنا تتجسد فكرة "عمى الذاكرة" بوصفها استعارة كبرى للفقد: فقد الأصل، والهوية، والمعنى.

مصدر الصورة الكاتب اليمني حميد الرقيمي (يسار) توّج بجائزة "كتارا" لأفضل رواية منشورة (الصحافة القطرية)

عبء الذاكرة

الرقيمي في هذه الرواية لا يروي فقط حكاية شخصية، بل يصوغ مرثية وطنية لجيلٍ تاه في دهاليز الحرب. فبطل الرواية "بدر" ليس بطلا تقليديا، بل هو نموذج لما يُعرف في النقد الحديث بـ"البطل الضد"، أي الشخصية التي تُسحق تحت وطأة الأحداث من دون أن تمتلك القدرة على تغيير مسارها.

تحيط به الحروب من كل صوب، وتطارده في كل مرحلة من عمره، حتى حين يحاول النهوض من الرماد، تلاحقه القذائف لتُعيده إلى نقطة الصفر. وكأن قدره أن يكون الشاهد الحي على موت الجميع، وأن يحمل عبء الذاكرة حين يعجز الآخرون عن حمله.

إعلان

تتوزع رحلة بدر بين القرى والمدن المهدّمة داخل اليمن، ثم تمتد إلى فضاءات الشتات العربي من عدن إلى القاهرة فالخرطوم وليبيا، قبل أن يُلقي بنفسه في قارب الهجرة غير النظامية نحو أوروبا. هذه الرحلة المكانية المكثفة لا تُقدَّم كتنقّلٍ جغرافي، بل كرحلة وجودية تبحث عن الخلاص.

كل مدينة يدخلها البطل تبدو نسخة جديدة من الخراب الأول، كأن الحرب تلاحقه أينما حلّ، وكأنّ اليمن صار مرآة للعالم كلّه حين يختبر الإنسان فقدان الأمان والمنفى. وفي كل محطة يلتقي بدر وجوها جديدة تحمل حكاياتها الخاصة: العاشقين، والناجين، والمهاجرين، والطامحين إلى الحياة. هؤلاء جميعا يشكّلون خيوطا إنسانية تربط مصائرهم بمصيره، وتحوّل السرد إلى فسيفساء من التجارب الموجعة التي تتقاطع في مصبّ واحد هو الاغتراب الإنساني.

ويكتب الرقيمي روايته بلغةٍ مشبعة بالشعر، حتى في أكثر المشاهد قسوة ودموية. واللغة هنا ليست وسيلة للسرد فحسب، بل مساحة للعزاء، كأن الكاتب يحاول من خلالها إنقاذ الإنسان من قبح الواقع بتطعيمه بجمال اللغة.

الطبيعة تحضر في النص حضورا لافتا، فهي الملاذ الوحيد الذي يهب البطل شيئا من السكينة وسط جحيم الحرب: الجبال، والبحر، والسماء، وحتى الصحراء، تتحول إلى شخوص موازية تشاركه المحنة، وتُعينه على احتمال الوجود. هذه النزعة الشعرية لا تُضعف البناء الواقعي، بل تمنحه بعدا تأمليا يجعل النص أقرب إلى الاعتراف الروحي منه إلى التوثيق الحربي.

كلما دُفن البطل تحت ركام ما، خرج من جديد باسم آخر وحياة أخرى، حتى يتحوّل اسمه إلى علامة على الاستمرار لا على الهوية الثابتة.

خراب الذاكرة

تنجح الرواية في بناء توازن دقيق بين السرد الواقعي والبعد الرمزي. فمن جهة، نرى المشاهد الميدانية بتفاصيلها الدقيقة: الدمار، والجثث، والركام، ورائحة البارود، وكل ما يجعل القارئ أمام صورة حيّة للحرب.

ومن جهة أخرى، نلمح طبقة رمزية كثيفة تجعل من هذه المشاهد علامات على خراب أعمق: خراب النفس والذاكرة. وهنا تبرز براعة الرقيمي في جعل التجربة اليمنية محددة في ظاهرها، كونية في جوهرها. فالحرب التي يكتب عنها ليست حرب اليمن وحده، بل كل حربٍ تسحق الإنسان وتنتزع منه ماضيه ومستقبله في آن.

عنوان الرواية "عمى الذاكرة" يلخّص الفلسفة الكامنة في متنها. فالعَمى ليس هنا عجزا عن الرؤية، بل فقدان البصيرة، وضياع القدرة على تذكّر الذات. إنّه العمى الذي تسببه الصدمات حين تغلق على الوعي منافذ التذكّر لتمنحه حماية مؤقتة، قبل أن تنفجر الذاكرة فجأة، فيغرق الإنسان في طوفان الصور المنسية. بهذا المعنى، لا يعود العنوان وصفا لحالة فردية، بل استعارة عن جيل بأكمله أُصيب بالعمى جراء تتابع الحروب والنكبات.

ومن الناحية التقنية، اعتمد الرقيمي على السرد بضمير المتكلم، مما جعل الرواية أقرب إلى الاعتراف الذاتي منها إلى الحكاية الموضوعية. هذا الاختيار يخلق علاقة حميمة بين القارئ والراوي، ويمنح التجربة صدقا شعوريا نادرا.

غير أن الكاتب لا يكتفي بموقع الراوي الضحية، بل يكسر الحاجز بينه وبين القارئ في لحظات عدة، مخاطبا إياه مباشرة في نبرة شبيهة بالمناجاة: "لعلك قرأت الكثير من المآسي… لكنني غير قادر على أن أرسم مشهدا واحدا لا أجد فيه جثة مرمية في العراء".

إعلان

هذه التقنية، التي تُعرف في النقد المعاصر بـ"كسر الجدار الرابع"، تضفي على النص وعيا ذاتيا حادا، وتجعل القارئ شريكا في المأساة لا متفرجا عليها.

كما أن الرواية تتكئ على بناء دائري يبدأ بالموت وينتهي بولادة جديدة. فكلما دُفن البطل تحت ركامٍ ما، يخرج من جديد باسم آخر وحياةٍ أخرى، حتى يتحوّل اسمه إلى علامة على الاستمرار لا على الهوية الثابتة في نهاية النص، حين ينجو وحده من قارب الهجرة الذي يغرق بأصحابه، ويجد نفسه بين يدي طبيبة نفسية يجعلها القدر منقذته، يبدو كأنه يولد من جديد. تلك الولادة الثالثة تُغلق الدائرة لتؤكد أن النجاة الممكنة ليست في الهروب من الحرب، بل في مواجهة الذاكرة والاعتراف بها.

تُثري الرواية إشاراتها بتصدير شعري من قصيدة لعبد العزيز المقالح، أحد أهم أصوات اليمن الشعرية، وكأن الرقيمي يستدعي هذا الصوت العريق ليربط الحاضر المنكوب بالماضي الثقافي الذي ما زال يضيء في الذاكرة الجمعية. كما يضع إهداء طويلا يوجّه فيه التحية إلى ضحايا الحروب والمنافي، ويصف عمله بأنه "مرافعة في وجه الظلم"، وهو ما يفتح الرواية على بعدها الأخلاقي الإنساني، بوصفها شهادة لا مجرد تخييل فني.

حفظ الذاكرة

وعلى الرغم من قتامة المادة السردية، فإن النص لا يستسلم للظلام، بل يصرّ على الإمساك بخيطٍ من الضوء. فكلما غاب الأمل، ينبثق من بين الجراح شكلٌ من أشكال المقاومة: في الحب، أو في الذاكرة، أو في الرغبة بالكتابة ذاتها. وهنا يبرع الرقيمي في جعل الكتابة نفسها فعلا للخلاص، وكأنّ الراوي حين يكتب، يرمّم ما تهدّم فيه وفي وطنه معا. إن فعل التدوين يصبح شكلا من أشكال البقاء، ووسيلة لحفظ الذاكرة من العمى التام.

بمنظورٍ تحليلي، تنتمي "عمى الذاكرة" إلى روايات الحرب ما بعد الحداثية التي لا تكتفي بتوثيق المأساة بل تُسائلها. فالحرب ليست حدثا خارجيا في النص، بل تجربة داخلية تعيد صياغة علاقة الإنسان بالعالم. من هنا تبدو الرواية أقرب إلى رحلة في عمق الذات اليمنية والإنسانية، رحلة تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم أجوبة: ما معنى أن تكون ناجيا؟ وكيف يمكن لحياةٍ مكسورة أن تستمرّ؟ وهل يمكن للذاكرة أن تُشفى من عماها؟ هذه الأسئلة تشكّل جوهر التجربة السردية عند الرقيمي، وتمنح الرواية بعدها الفلسفي العميق.

تُوجّت الرواية بجائزة "كتارا" لأفضل رواية منشورة، وهي جائزة تليق بعملٍ استطاع أن يحوّل الألم الشخصي إلى خطابٍ إنساني شامل. فالقيمة الجمالية هنا لا تنفصل عن الرسالة الإنسانية، واللغة الشعرية لا تتناقض مع التوثيق الواقعي، بل تتكامل معه لتنتج نصا يقطر صدقا ووجعا. بهذا المعنى، تمثّل "عمى الذاكرة" إضافة نوعية إلى المشهد الروائي اليمني والعربي، لأنها تُعيد طرح السؤال الأهم في زمن الحروب: كيف يمكن للأدب أن يُعيد الإنسان إلى مركز الحكاية بعد أن طمسته المدافع؟

إن رواية حميد الرقيمي ليست فقط مرثية لجيلٍ مفقود، بل شهادة على قدرة الأدب على مقاومة النسيان. وبين العمى والبصيرة، والموت والنجاة، والذاكرة والفقد، ينسج الكاتب نصا يليق بمأساةٍ كبرى دون أن يغرق في البكائية أو الخطابية، بلغةٍ أنيقة رصينة تُصغي إلى وجع الإنسان وتمنحه صوتا وسط ضجيج السلاح. إنها رواية عن الحرب، نعم، لكنها قبل كل شيء رواية عن الإصرار على البقاء، عن الإنسان الذي يخرج من الرماد ليكتب سيرته، شاهدا لا ضحية.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار