آخر الأخبار

ذكريات مقدسية في كتاب "شمسنا لن تغيب"

شارك

قبل أن أقرأ هذا الكتاب القيم والمكتنز بالذكريات المقدسية لمؤلفه ابن القدس وأحد رجالاتها المناضلين، جمعتني به زيارة لعيادته الطبية، وقد جئته كمريض يعاني من القولون العصبي، فوجدته مهتما بالسياسة وبالنضال الوطني إلى جانب اهتمامه بالطب وبالأمور الصحية.

وبعدها عملت معه في جمعية يوم القدس، حيث طلب مني المشاركة والعمل إلى جانبه مع فريق تربوي في مجال الإشراف على مسابقة سنوية تنظمها الجمعية لطلبة المدارس في تأليف الشعر وإلقائه وكتابة القصص القصيرة ورسم اللوحات الفنية، على أن تكون المشاركات عن مدينة القدس وخاصة بها، بهدف توعية تلاميذ المدارس في عمّان بقضية القدس المحتلة والقضية الفلسطينية، وغرس محبة القدس في قلوبهم وإنقاذها من الاحتلال والتهويد والاستيطان.

وفي إحدى السنوات رأينا أن تكون المسابقة دولية واسعة النطاق بحيث تشمل الطلاب في الدول العربية والمهجر، وكم كانت فرحة الدكتور المناضل صبحي غوشة مؤلف هذا الكتاب ورئيس جمعية يوم القدس كبيرة بغزارة ما ورد من مشاركات عبر البريد والبريد الإلكتروني، فبدا وكأنه يشهد عرسا من أعراس القدس، مما استوجب تشكيل عدة لجان تحكيم لتقييم المحاولات الشعرية والقصصية ولوحات الرسم التي تدور موضوعاتها حول مدينة القدس المباركة.

في كتابه "شمسنا لن تغيب"، حقائق ثقيلة المحتوى ومليئة بذكريات يحسبها القارئ مذكرات شخصية تأتي في سياق السيرة الذاتية، ثم لا يلبث أن يجدها تدوينا لوقائع وأحداث تتعلق بالقدس خاصة وبفلسطين وقضيتها بشكل عام، فكأننا بالمؤلف يؤرخ لمرحلة تاريخية صعبة مرت بها فلسطين وشعبها في النصف الأول من القرن العشرين.

مصدر الصورة الدكتور غوشة – رحمه الله – في مذكراته يفند الزعم الصهيوني الذي صور فلسطين بأنها أرض بلا شعب (الصحافة الفلسطينية)

هذه الحقبة الزمنية القاسية التي شهدت الحربين العالميتين ووعد بلفور والاستعمار البريطاني الفرنسي للوطن العربي وتقسيمه إلى أقطار متعددة لها حدودها بعد انهيار الدولة العثمانية ووفقا لتقسيمات "سايكس – بيكو" الاستعمارية.

إعلان

تلك التقسيمات التي حولت فلسطين إلى أرض تحت الانتداب البريطاني، المطلوب منه العمل على تنفيذ وعد بلفور بإقامة ما سمي بوطن قومي لليهود، على حساب شعب فلسطين العربي، الذي وجد نفسه بين مطرقة الاستيطان اليهودي المسلح بالإرهاب، وسندان الحكم البريطاني الظالم.

فإذا بهذا الحكم يضطهد الإنسان العربي على أرض فلسطين لصالح توطين اليهود الذين يتم تجميعهم من الشرق والغرب ليكون لهم وطن مغتصب بإشراف بريطاني منحاز كل الانحياز لفكرة إقامة كيان صهيوني يطلق عليه اسم "دولة إسرائيل" التي ظلت تحلم بها الحركة الصهيونية بزعامة ثيودور هرتزل منذ انعقاد مؤتمرها في بال بسويسرا عام 1897.

من الصفحات الأولى لهذا الكتاب يأخذنا مؤلفه من حيث المكان إلى شوارع القدس القديمة الضيقة وحاراتها العتيقة داخل السور، ومن حيث الزمان إلى حياة المقدسيين وأيامهم المثقلة بالهم الوطني والقلق المستقبلي في النصف الأول من القرن العشرين، الذي يخيم عليه الانتداب البريطاني على فلسطين والمفتوح لاستقدام اليهود وتوطينهم تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم وتمشيا مع دعوة الصهيونية إلى عودة اليهود من كل أنحاء العالم إلى ما تسميه أرض الميعاد.

يحدثنا الدكتور صبحي غوشة عن طفولته في مدينة القدس وعن أيام دراسته في الكلية الإبراهيمية وانتقاله إلى مدرسة المطران، وقد بدأ يفتح عينيه على هيمنة الإنجليز على كل ما يتعلق بالمدينة وحياة سكانها اليومية.

ويشير إلى حادثة طريفة حصلت له وهو عائد من المدرسة إلى البيت، حيث دفعه زميله على شجرة صغيرة مزروعة أمام نقطة عسكرية بريطانية فانكسرت، مما استوجب إلقاء القبض عليه واعتقاله والطلب منه أن يقف على رجل واحدة عقوبة له.. وكأننا بالمؤلف هنا في تذكره لتلك الواقعة يريد أن يقول لنا إن كسر شجرة صغيرة مصادفة استوجب توقيف تلميذ صغير على رجل واحدة أكثر من ساعة كعقوبة له، أما استعمار وطن اسمه فلسطين وتسليم أرضه لمستوطنين ومغتصبين صهاينة فلا يستوجب أي مساءلة للمستعمر البريطاني الذي يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق.

مصدر الصورة غوشة استعاد في كتابه تقاليد رمضان وعيد القدس وعادات شعب فلسطين الأصيلة، كالعنطبيخ والدبس (مواقع التواصل)

إن الدكتور غوشة -رحمه الله- في مذكراته يفند الزعم الصهيوني الذي صور فلسطين بأنها أرض بلا شعب له حياته الاجتماعية ومقومات حضارة عريقة امتدت لآلاف السنين، فيسلط الضوء التاريخي على حياة الشعب الفلسطيني تحت الانتداب البريطاني بعراقته ونضاله في النصف الأول من القرن العشرين.

فيتحدث الدكتور عن العادات الاجتماعية والحياة الاقتصادية والسياسية بما كان يقام من مناسبات واحتفالات ومواسم مهرجانية تقام لها مسيرات حافلة بالهتافات الوطنية والأهازيج الشعبية.

وفي مقدمة هذه المواسم الوطنية موسم النبي موسى الذي كان يجمع أهل المدن والقرى، وترفع فيه الرايات وتقام له أفراح وطنية مزدانة بالدبكات والأغاني التي يراد لها أن تقول للمستعمرين والمتربصين الصهاينة: نحن هنا صامدون ومتمسكون بحقنا في أرضنا ولن نتخلى عن ترابها وشجرها وهوائها.

ومن تلك الأهازيج الشعبية التي كانت تسمعها فلسطين من شعبها في مسيراته الدينية والوطنية ما كانوا فيها يخاطبون الحاج أمين الحسيني زعيم القضية الفلسطينية في ذلك الوقت الصعب:

إعلان

"حاج أمين لا تعبس بدك عسكر بنلبس"

وبينما كان أبناء الخليل يرفعون الرايات وينشدون لمدينتهم الخليل، كان أبناء نابلس ينشدون:

"نحنا ولاد جبل النار شوكة بحلق الاستعمار"

تأكيدا على عراقة شعب فلسطين وحضارته وعاداته الأصيلة عمد المؤلف إلى إشعال قناديله الخضراء في الذاكرة المقدسية ليتحدث عن رمضان في ربوع القدس وطقوس العيد، وعن بعض التقاليد التي كانت معروفة مثل "كاسات الهواء" التي تشبه الحجامة المعروفة، وصناعة العنطبيخ والدبس من العنب، وعن "طلعة البيرق" في موسم النبي موسى التي كان لها مغزى سياسي في عهد الحاج أمين الحسيني الذي كانت تقول له الحشود المجتمعة:

"حاج أمين يا منصور بسيفك هدينا السور"

كما كان المشاركون في المسيرة يهتفون للمناضل المقدسي راغب بك النشاشيبي:

"راغب بيك لا تهتم ورجالك شريبة دم"

وفي المقابل تطرق المؤلف في مذكراته إلى جملة من الأمثال الشعبية التي ربما نشأت في عهد الاستبداد العثماني ببلاد الشام وشجع على استعمالها الانتداب البريطاني، لما فيها من سلبيات تحث على الخضوع والاستسلام بدلا من الثورة في وجه المستعمر ومقاومة الصهيوني المحتل، ومن هذه الأمثال:


* كلنا في الهوا سوا
* الهريبة ثلثين المراجل
* حط راسك بين الروس وقول يا قطاعين الروس
* أعط خبزك للفران ولو ياكل نصه
* كف ما بلاطم مخرز
* على بال مين يلي بترقص العتمة

ولا يفوت صاحب الذكريات أن يقف عند بعض الأمثال الشعبية التي تحض على الصمود والنضال والثبات مثل:


* لا يضيع حق وراه مطالب
* البدوي أخذ بثأره بعد أربعين سنة وقال استعجلت
* لا يفل الحديد إلا الحديد
* ما بجيب الرطل إلا الرطل ونص
* لو عكا بتخاف من البحر ما وقفت على الشط

هذه الأمثال القوية والإيجابية كانت بمثابة الرد على أمثال ضعيفة سلبية راحت تروجها قوى استسلامية في فلسطين، ويشجع المستعمر البريطاني على ترويجها وهو يطبق سياسة "فرق تسد" فيضرب القوى الوطنية بعضها ببعض، جاذبا إلى سياسته المخادعة والماكرة بعض العملاء والمتخاذلين المخدوعين، هؤلاء الذين لا يخلو منهم شعب من الشعوب التي تقاوم المستعمر أو المحتل.

ومع قراءة تأملية لهذا الكتاب "شمسنا لن تغيب" نصل إلى صفحات نضالية يلقي عليها المؤلف إضاءات واسعة وكبيرة حرص على تسجيل وقائعها التاريخية للأجيال الحالية والقادمة، لتكون على معرفة ويقين بأن الشعب الفلسطيني لم يفرط في أرضه ولم يتردد في ثورته ضد الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية الإرهابية التي كانت، وبدعم بريطاني، تقيم المجزرة تلو المجزرة في قرى ومدن فلسطين، وفي مقدمتها مذبحة دير ياسين التي ذبح فيها الأطفال والشيوخ وبقرت فيها بطون النساء الحوامل.

وقبل التطرق للمحطات النضالية التي كانت تجري على أرض فلسطين وتقابل ببطش المستعمر وإعدامه لأحرارها وثوارها، يعود الدكتور المناضل صبحي غوشة إلى استخراج صورة بشعة لاستبداد قوة المستعمر وغطرسته فيقول:

"أيقظتنا في صبيحة أحد الأيام الباردة من شهر يناير/كانون الثاني 1938 أصوات طرقات عالية على باب الدار، واقترنت هذه الطرقات بأصوات أقدام كثيرة تتراكض وسيارات تتحرك بسرعة.. تكررت الطرقات بقوة، وما أن فتحت الوالدة الباب حتى سمعنا صوت اندفاع أشخاص داخل البيت وصراخهم قائلين: كل رجال برة.. كل شباب برة، وبدأ جنود الجيش البريطاني يدخلون الغرف ويلكزون النائمين بأعقاب بنادقهم، وكنت أكبر إخوتي لم أتجاوز التاسعة من العمر، تركونا ودخلوا غرفة الوالد وأجبروه على الخروج قبل أن يستطيع ارتداء ملابسه، فخرج وهو لا يزال يلبس الجاكيت وفتشوا باقي الغرف".

في الفصل الأخير من الكتاب وتحت عنوان "محطات سياسية"، يروي لنا الدكتور صبحي غوشة قصة الدفاع عن الحق والأرض، حيث يلقي إضاءة صادقة على المحطات النضالية التي أنشأها وسجلها بمداد من الدم وعرق من جبين أحرار فلسطين ورجالاتها البواسل، بدءا من مقاومتهم وتصديهم لوعد بلفور الظالم الذي وعد اليهود بوطن قومي.

وطن، هو في الأصل، لقبائل عربية كنعانية أصيلة كانت وظلت سجلات التاريخ تسمي هذا الوطن "أرض كنعان" وعاصمته منذ آلاف السنين "أورسالم" الكنعانية، حتى إن اليهود الذين دخلوا هذه الأرض العربية وسموها أرض الميعاد، لم يلبثوا أن يقيموا فيها دولتهم حتى تعرضوا للسبي والنفي أكثر من مرة على يد "نبوخذ نصر" الذي دمر القدس ونفاهم إلى بابل، وعلى يد الإمبراطور الروماني "تيتوس" الذي دمر القدس ودمر وجود اليهود وهيكلهم.

نطالع في اللوحات التاريخية التي يرسمها المؤلف بإضاءات وكلمات صادقة قيام الحركة الوطنية الفلسطينية التي عملت على تفجير الثورة منذ عام 1918 وتصعيدها في ثورتها الأولى التي سميت ثورة يافا 1920، تتبعها ثورات أدت إلى أكبر إضراب في فلسطين عرف بإضراب 1936.

إعلان

في هذه المرحلة الزمنية الصعبة من نضال الشعب على أرضه المهددة بالسلب والاستيطان، كانت الثورة الفلسطينية بين نارين تقاومهما وتتصدى لهما: نار الاستعمار البريطاني ونار الأطماع الصهيونية الاستيطانية، ولكنها -وكما يحدثنا المؤلف- صمدت وقدمت رجالاتها الشهداء، أمثال إبراهيم أبو دية وعبد القادر الحسيني، وعطا الزير وفؤاد حجازي، ومحمد الجمجوم وفرحان السعدي، وعز الدين القسام، والشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود.

ولا يفوت المؤلف أن يتحدث عن العصابات الإرهابية اليهودية والمجازر التي كانت ترتكبها إلى أن يصل إلى نكبة 1948 التي نهبت فيها الأرض بقوة السلاح وأدت إلى قيام دولة اسمها "إسرائيل".

خلاصة القول وباختصار، عندما يفتح القارئ الغلاف الأمامي لهذا الكتاب ويهم بقراءته، سيجد أنه قد فتح حقيبة مليئة ومكتنزة بالذكريات المقدسية، يدونها الدكتور صبحي غوشة لتظل شاهدة على نضال شعب فلسطين وصموده وتشبثه بأرضه ما بين انتداب ظالم وعدوان استيطاني غاشم، مما يبعث على التفاؤل على امتداد الصراع بأن شمسنا لن تغيب.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار