يضع الشاعر العراقي علي حبش في ديوانه الجديد "لا بغداد قرب حياتي" (2025)، القارئ أمام مشهدية مركّبة تتقاطع فيها تجارب المنفى مع جراح الذاكرة العربية الحديثة، فالعنوان بحد ذاته -بجملته النافية- يفتح أفقا من الحزن والاغتراب، فبغداد ليست قرب حياة الشاعر، بل بعيدة عنه، محجوبة في الذاكرة، غائبة في الخراب.
يتألف الديوان -الصادر عن اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق- من أكثر من 30 قصيدة ، تنبني في غالبها على التكثيف والومضة، حيث يغيب السرد الطويل لتحضر الجملة الشعرية اللامعة، المقتطعة من قلب التجربة، وفي هذه النصوص، يراهن حبش على أن القصيدة القصيرة قادرة على التقاط توترات كبرى مثل الاحتلال، الحرب، الغربة، والفقدان، وذلك عبر تفاصيل صغيرة من الحياة اليومية.
تتراوح القصائد بين مقاطع شديدة التكثيف، لا تتجاوز الأسطر المعدودة، ونصوص تتسع لمشاهد تاريخية كثيفة، وتتوزع ثيمات الديوان على أربعة محاور متشابكة، المنفى كقدر وجودي والذاكرة الجمعية للنكبات العربية والحرب والاحتلال والحنين الشخصي عبر قصائد الحب والغياب.
في التاسع من نيسان
صفع الجنود مدينتي
فتكسر زجاج المكتبة
وازدحمت الجرائد
بالجثث.
تحضر العاصمة العراقية بغداد بوصفها مدينة جرح وذاكرة، أكثر من كونها مكانًا جغرافيًا، ففي قصيدة "جنود الاحتلال"، يرسم حبش صورة العام 2003 حين غابت ملامح المدينة تحت وقع الغزو الأميركي، لتصبح بغداد رمزا لانكسار عربي جماعي، وفي قصائد أخرى مثل "الاحتلال " و"حرب الخليج"، يتردد صدى التاريخ الحديث بما فيه من صدمات متلاحقة، كأن الشاعر يسجّل فصولًا من سيرة الخراب العربي بلغة مقتضبة، لكنه يجعلها أكثر قسوة بفعل اختزالها.
وفي قصيدة "وثيقة اللجوء"، يلتقط حبش صورة اللجوء لا كحدث سياسي فحسب، بل كجرح وجودي "يُشهره المنفي على الجميع"، جاعلًا من الورقة الرسمية مرآةً لانكسار الإنسان.
في المقابل، تحضر قصائد الحب مثل "سرير الحب" و"أحبك" و"قبلة" لتكشف الوجه الآخر للشاعر، حيث يتجاور الوجع الشخصي مع القسوة العامة للتاريخ. هنا، يتحول الحب إلى ملاذ هشّ، وإلى محاولة لمقاومة اليأس بالحنين والجسد والذاكرة.
اللافت أن العناوين ذاتها تشكّل مدخلًا دلاليًا: "الغربة، الثلج، خلف المحيط، باب المعظم، أصدقائي"، وهذه كلها إشارات إلى خرائط جغرافية ووجدانية تتوزع بين الشرق والغرب، بين المنفى والوطن، بين "تمثال الحرية" كرمز زائف للحرية، و"الأب" الذي يستدعي جذور الذاكرة الأولى.
وأنا أدفع سرير الحب
إلى الرصيف
كتبت أحبك
على زجاج النافذة
بهذا المعنى، يمكن قراءة الديوان بوصفه محاولة شعرية لتوثيق الانكسارات الكبرى التي لحقت بالعرب في العقود الأخيرة، من احتلال بغداد إلى الحروب المتلاحقة، لكن عبر لغة تلتقط التفاصيل الصغيرة، "باص الصباح"، "استكان الشاي"، "حبل الغسيل"، تعيد تلك التفاصيل صياغة التاريخ في جسد فردي يكتب وكأنه يجرّب مرارًا بروفات متتالية للحياة والمنفى، دون أن يبلغ العرض الأخير.
حتى في عنوان الديوان "لا بغداد قرب حياتي"، يعلن حبش عن قطيعة وجودية مع المدينة، كأنها لم تعد فقط جرحًا شخصيًا، بل غيابًا ممتدًا لا يمكن استعادته.
المنفى عند حبش ليس مجرد مكان آخر، بل جغرافيا داخلية يعيشها المنفي في تفاصيل يومه في قصيدة "وثيقة اللجوء" مثلًا، تتحول ورقة رسمية إلى "أيقونة للغياب"، بينما يظهر المنفى في قصائد مثل "تمثال الحرية" و"خلف المحيط" كخديعة كبرى، إنها رموز براقة للحرية تخفي عجزًا وجوديًا وصمتًا طويلًا، فيظهر التوتر بين الوعود الكاذبة للغرب وبين عزلة المنفي الذي يواجه خواء الحرية الرمزية.
في قارة يحلم بها الجميع
امتلأت حياتي بالتماثيل
ابنتي تمثال يتجول في المنزل
جاري الأمريكي تمثال أيضاً
لا صديق لديه ولا حبيبة
يشرب النبيذ وحيداً في الحديقة،
النساء الجميلات
تماثيل يعملن في المصانع والأسواق،
تماثيل تتكرر بحنجرة المذيع
وفي هاتفي النقال وعلى شاشة التلفاز
تماثيل تقاتل بالدروع والمروحيات
وتمثال الحرية
يبتسم وسط الغيوم
للتماثيل،
هكذا أصبحت تمثالاً في هذه القارة
تمثالا تتكاثر فيه الدموع
وتبتعد
عنه البلاد.
في نصوصه، لا يُرسم المنفى بالمدن وحدها (شيكاغو، لندن، أوروبا) بل عبر اليوميّ العابر استكان الشاي، الباص الأحمر، حبل الغسيل، وهذه العلامات الصغيرة هي ما يمنح نصوص حبش صدقيتها الشعرية، إذ يلتقط تفاصيل تبدو عادية لكنها تحمل كل ثقل الاقتلاع.
إن عنوان الديوان نفسه، "لا بغداد قرب حياتي"، يمثل جوهر تجربة المنفى، وهو ما يمنح شعر حبش عمقًا مأساويًا خاصًا. إنه إعلان عن استحالة العودة، ليس فقط المكانية، بل الزمنية والنفسية أيضًا. بغداد أصبحت فكرة، ذكرى، جرحًا، لا واقعًا يمكن العيش فيه.
يُمكن القول إن القوة الحقيقية للديوان تكمن في قدرة الشاعر على كتابة الأحداث الكبرى من زاوية التفاصيل الصغيرة، ورفع هذه التفاصيل إلى مستوى الوثيقة التاريخية. فبدل أن يكتب عن الاحتلال كحدث سياسي ضخم، يكتب عن "غرفة النوم" أو "المكتبة"، ليثبت أن الكارثة تسكن اليومي بقدر ما تسكن الشعارات الكبرى. هذا التركيز على الهامشي هو ما يجعل من قصائده شهادات حية، وليست مجرد بيانات سياسية أو رثاء مجرد.
إنهم يقتربون من أحلامي
يقتربون من دموع طيبة
كيف سأواجه مدرعاتهم؟
وأنا لا أملك من الحرب
غير زجاج تحطّم
وبعض النقود
المعدنية.
ورغم قتامة التجربة، يمنح الشاعر للحب حضورًا خاصًا، لكنه ليس حبًا غنائيًا مطلقًا، بل حبّ يتشكّل وسط الخراب. في قصائد مثل "سرير الحب"، "أحبك"، و"قبلة"، فيتجاور العاطفي مع السياسي، والحميمي مع العام، ليصبح الحب ملاذًا هشًّا ضد العزلة، هذه النصوص تمنح القارئ فسحة تنفس وسط التوتر الطاغي، وتعيد التوازن بين الألم الشخصي والجماعي.
قوة الديوان تكمن في أنه يعيد كتابة الأحداث الكبرى من زاوية التفاصيل الصغيرة، فبدل أن يكتب عن الاحتلال كحدث سياسي، فإنه يكتب عن "غرفة النوم"، "المكتبة"، أو "الباص الأحمر"، ليثبت أن الكارثة تسكن اليوميّ بقدر ما تسكن الشعارات الكبرى، هذه المقاربة تجعل من قصائده شهادات حيّة، لا بيانات سياسية ولا رثاء مجردا.
يميل حبش في هذا العمل إلى كتابة "القصيدة الومضة"، حيث تتشكل النصوص من جمل قصيرة ومقطّعة، أقرب إلى نبضات الذاكرة وصدماتها، لتؤكد على أن الشعر ليس عرضا نهائيا بقدر ما هو "بروفة" متجددة للحياة والكتابة.
يأتي هذا الديوان في سياق التجربة الشعرية لعلي حبش، التي تتميز بالاقتصاد اللغوي، والرهان على الإيقاع الداخلي للجملة الشعرية القصيرة. كما أن القصائد في هذا الديوان تبدو كأنها مقاطع متفرقة من دفتر شخصي، لكنها في الحقيقة تنسج خريطة كاملة للمنفى العربي، حيث تتقاطع تجربة الفرد مع المصائر الجمعية. ومن قصيدة "وثيقة اللجوء" نقرأ ما يلي:
الحرب تتجوّل أمام المنزل،
صاروخ يصافح المقهى
يبصق على الجميع
وآخر
يتجمّد في أسفل القلب
ثم ينقطع البث،
أتجوّل في دمشق
وفي جيبي وثيقة اللجوء
أبحث عن المطارات في كتب التاريخ
وفي غرفة مكتظة وسط الشام
أصطدم بأحد المترجمين
وهو يبارك العائلة بحياة أخرى
أرتجف
وفي يدي بعض الوثائق،
مرات عديدة
حاولت أن أبيع ذكرياتي
على رصيف في دمشق
ولم أنجح.
وأخيراً وفي نهاية النفق
نجلس بأحشاء طائرة تتجه
نحو الغرب
نحو مصانع الرصاص؟!
ينتمي الشاعر علي حبش إلى جيل شعري عراقي تفتّح وعيه على وقع الحروب والاحتلالات، وتشكلت تجربته في فضاءات المنفى، كتب قصيدته على تماس مع اليوميّ والوجوديّ، مستعينًا بذاكرة شخصية مشبعة بالخسارات، وبوعي نقدي يلتقط التناقض بين الشعارات الكبرى والواقع المعيش.
أصدر حبش عدة مجموعات شعرية قبل هذا العمل، وشارك في ملتقيات ثقافية عربية وأوروبية، حيث ظلّ صوته مرتبطًا بقضايا المنفى والهوية والاغتراب. تتسم قصائده بالاقتصاد اللغوي، والانحياز إلى الجملة القصيرة، وكأنها ومضة برق في عتمة طويلة.
يتضح من ديوان «لا بغداد قرب حياتي» أن علي حبش يواصل خطّه الشعري الذي بدأ مع تجربته "سنوات بلا سبب" (2001)، حيث ظهرت ملامح قصيدته الأولى متأثرة بالاغتراب، لكنها كانت مشبعة بصوت جيل الثمانينيات العراقي. وفي ديوانه "صواريخ العائلة السعيدة" (2005، الدار المصرية اللبنانية)، والذي نال عنه جائزة ديوان الشعر، بدا حبش أكثر التصاقًا بالتجربة العراقية الجماعية، إذ استخدم مفردات الحرب والأسرة كمرآة للهزيمة والخراب، أما في "مدفع جواز الباب" (2015، دار المتوسط)، فقد اتجه إلى تكثيف الجملة الشعرية والاعتماد على الصور المفارقة، جامعًا بين اليوميّ السياسي والوجودي.
أما ديوانه الجديد «لا بغداد قرب حياتي» فيمكن اعتباره امتدادًا لهذه السلسلة، لكنه أكثر وضوحًا في إعلان القطيعة مع بغداد كمدينة وذاكرة، ففي حين ظلّ حضور بغداد سابقًا مشوبًا بالحنين، فإن العنوان الجديد يضعها في موقع الغياب الصريح. كما أن اللغة ازدادت اختزالًا، حتى صارت النصوص أقرب إلى شذرات أو ومضات ترسم خريطة المنفى عبر تفاصيل صغيرة، استكان الشاي، الباص الأحمر، حبل الغسيل.
هذا التطور يؤكد انتقال تجربة حبش من استعادة الماضي إلى مواجهة الحاضر، من قصيدة الحنين إلى قصيدة الاغتراب الكامل.
ديوان "لا بغداد قرب حياتي" أشبه بمخطط متشظٍ للذاكرة العربية الحديثة، حيث يكتب علي حبش تاريخنا الشخصي والجمعي بلغة مقتصدة، مقطّعة، أقرب إلى تنفّسات شاعر في المنفى يجرّب أن يكتب نفسه من جديد في مواجهة الخراب.
هنا، لا تنفصل السياسة عن الحب، ولا المنفى عن تفاصيل الحياة اليومية. القصيدة نفسها تتحول إلى "وثيقة" و"بروفة" و"خريطة"، تسجّل أثر الوجود العربي الممزق بين بغداد وشيكاغو، بين الغربة والبيت، بين الأب وتمثال الحرية.
بهذا العمل، يثبت علي حبش أن القصيدة القصيرة ليست عابرة أو ناقصة، بل هي الكائن الأكثر قدرة على التقاط صدمة التاريخ وحميمية الذاكرة في آنٍ واحد، وقطعا فإن هذا الديوان يؤكد أن القصيدة القصيرة قادرة على حمل الذاكرة الجمعية العربية -بغداد، اللجوء، الغربة- وفي الوقت نفسه التقاط تفاصيل الفرد المنفي وهو يعدّ استكان شايه، أو يتأمل حبل غسيله، الشعر هنا ليس عرضًا نهائيًا، بل حياة مؤجلة، تُكتب دائما بعبارة، لا بغداد قرب حياتي.
يمكن القول إن ديوان «لا بغداد قرب حياتي» يواصل المشروع الشعري لعلي حبش الذي يقوم على القصيدة الومضة، حيث تختزن الأسطر القليلة ذاكرة المنفى وتاريخ الهزائم، وفي الوقت نفسه تمنح القارئ ومضة من الأمل أو الحب، النصوص هنا ليست عروضًا مكتملة، بل محاولات متجددة لإعادة كتابة الذات والعالم، دون أن تبلغ اكتمالها.
يذكر أن علي حبش شاعر عراقي من مواليد بغداد، وهو من جيل الثمانينيات، يقيم في الولايات المتحدة منذ عام 2010، وصدر له عدد من المجموعات الشعرية، منها "سنوات بلا سبب" دار صامد، تونس، 2001، و«صواريخ العائلة السعيدة»، الدار المصرية اللبنانية، 2005 (حاز على جائزة ديوان 2005)، و«مدفع جواز الباب»، دار المتوسط، 2015. و"شيء من هذا القتيل"، عام 2021، وشارك في الأنطولوجيا «حياة أخرى – Another Life» (بالإنكليزية)، عن دار لول في ولاية نورث كارولاينا، وقد تحوّل إلى كتاب مسموع على موقع "أمازون" بصوت الشاعرة سبيرا بيرنز.