ربما بدأت نهارك صباحاً بفنجان قهوة على وقع أنغام أغنية لفيروز، وهي تقول "حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي". أو ربما تكون من هواة الأغاني الإنجليزية الكلاسيكية، فاستمعت لأغنية أوراق الخريف لنت كينغ كول.
لا أعلم أي طقس تفضلون، لكن قد تكون "القصة مش طقس"، كما غنت فيروز أيضاً. فلماذا إذاً قد نُصاب بالحنين لفصل معين في السنة، ولماذا قد يتغير مزاجنا للأسوأ حد الاكتئاب في فصول أخرى؟
بالنسبة لي كانت هذه التساؤلات مطروحة دائماً مع كل موسم شتاء، لماذا أكره الشتاء؟
يشرح استشاري الطب النفسي الدكتور ريتشارد دوغينز لبي بي سي أن الاضطراب العاطفي الموسمي المعروف بين الناس باسم "الاكتئاب الموسمي"، هو أحد أنواع الاكتئاب، ويتعلق بتغير الفصول، و"يبدأ عادةً في الخريف- الشتاء، ويختفي في الربيع أو الصيف".
ويقول إن أعراضه تشبه أعراض جميع أنواع الاكتئاب، وتشمل أعراضه الشائعة "هبوطاً في المزاج في غالبية الأيام على مدى عدة أسابيع، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل القلق، واضطرابات النوم، وتغيرات في الشهية والوزن، والشعور بالذنب أو الخجل. كما قد تكون هناك مشاعر يأس أو ميل للانتحار".
ويعرّف الموقع الطبي الإلكتروني مايوكلينك "الاضطراب العاطفي الموسمي-Seasonal affective disorder"، بأنه "نوع من حالات الاكتئاب يحدث بسبب التغيرات الموسمية، ويبدأ وينتهي في الأوقات نفسها تقريباً كل عام".
في كل شتاء اعتدت أن أنتظر ضوء الشمس بفارغ الصبر، يتغير مزاجي وأشعر في كثير من الأحيان بالإحباط وأكره شعور البرد، لكن هل لهذا تفسير؟ تساءلت لينا (30 عاماً).
في مشاعرها المتعلقة بالشتاء، تكره لينا التي تعيش في العاصمة الأردنية عمان، قصر النهار وعدم القدرة على الخروج والاستمتاع في كل الأوقات.
وتقول إنها اعتادت على تغير مزاجها في كل فصل شتاء، لكنها لم تتوجه إلى مختص لتشخيص حالتها.
تعزو نظريات علمية سبب ذلك إلى قصر الأيام في الخريف والشتاء وانخفاض كمية الضوء، مما يؤثر على الساعة البيولوجية للإنسان، ويُعتقد أن ذلك يُسهم في الضيق العاطفي. مما دفع نحو التوجه لنوع من العلاج باستخدام الضوء للوقاية من الاضطراب العاطفي الموسمي.
وفي حديثه لبي بي سي، يقول الطبيب العام والمختص في علم النفس الدكتور محمد العمري إن أحد العلاجات الأساسية لاضطراب المزاج المتعلق بالشتاء، يكون عبر تسليط الضوء على الشخص فيما يُعرف بـ "لايت بوكس"، لنحو 20 دقيقة في اليوم لتحسين مزاجه.
ويشير موقع مايوكلينك الطبي أيضاً إلى أن نقص فيتامين "D-دال" الذي يعزز نشاط السيروتونين، قد يؤثر في الاضطراب العاطفي الموسمي، إضافة إلى عوامل أخرى مثل مستويات الميلاتونين التي تؤثر على أنماط النوم والمزاج، والساعة البيولوجية للجسم (ساعة الجسم الداخلية).
وأظهرت دراسة مبنية على تحليل ومراجعة شاملة لـ 24 دراسة علمية من دول مختلفة، أن نحو 5 في المئة قد يعانون من الاضطراب العاطفي الموسمي، وقد يعاني منه بدرجة أقل حدة نحو 9 في المئة، وبنسبة نادرة جداً تقل عن 1 في المئة يصابون بهذا الاضطراب صيفاً، وفق المعاهد الوطنية- الأمريكية- للصحة (NIH).
ويلفت استشاري الطب النفسي دوغينز إلى أن أكثر الأشخاص عرضة للاضطراب العاطفي الموسمي هم "النساء، ثم الشباب خاصة ممن يعيشون في بلدان ذات شتاء مظلم (أي بعيدة عن خط الاستواء)، وبالأخص من لديهم تاريخ عائلي من الاضطراب العاطفي الموسمي أو اضطرابات المزاج".
ويوضح دوغينز أن سبب ذلك "يرتبط جزئياً بالتغيرات الهرمونية للنساء التي قد تتأثر بتغيرات ضوء النهار. كما أن الساعة البيولوجية لأجسام الشباب قد تكون أكثر حساسية لتغيرات ضوء النهار. ناهيك عن تعرض النساء والشباب لضغوط حياتية إضافية".
وتعتقد أخصائية الصحة النفسية سارة النجار أن "اضطراب الاكتئاب السريري أو الشديد، مع النمط الموسمي، ليس اضطراباً مستقلاً، إنما يزور المرضى المشخصين بالاكتئاب أو اضطراب ثنائي القطب (حالة صحية عقلية تُسبب تقلبات مزاجية حادة)، على شكل نوبات موسمية".
وتلفت النجار إلى أنه "لا بد أن يكون قد حدث للمريض نوبتان موسميتان على الأقل خلال آخر سنتين، دون وجود نوبات اكتئابية غير موسمية في تلك الفترة"، لاعتباره مصاباً بـ "الاكتئاب الموسمي".
ويرجح الطبيب العمري ارتباط الاضطراب الموسمي، بأعراض نفسية أخرى موجودة لدى الشخص أو أحد أفراد عائلته مثل ثنائي القطب.
و"يزيد خطر الإصابة بالاضطراب العاطفي الموسمي بين الأشخاص الذين لديهم اضطراب ثنائي القطب"، وفق مايوكلينك.
لكن يقول دوغينز إن الاضطراب العاطفي الموسمي قد يصيب أشخاصاً ليس لديهم أي عارض نفسي آخر.
ولا يقتصر تفضيل فصل على آخر على البشر، بل نجده أيضاً في النباتات والحيوانات. وكمثال زهرة دوار الشمس أو عباد الشمس (Sunflower- Helianthus annuus) التي حملت هذا الاسم لأنها تميل إلى اتجاه الشمس. فهل أنتم مثل هذه الزهرة أم أنكم من كارهي الصيف؟
لم أكن عادة أجد سبباً واضحاً للجدال على حب موسم الصيف، وأستغرب أن البعض قد يكرهه.
أخصائي علم النفس السريري الدكتور آدم بورلاند يطرح المسألة عبر منصة كليفلاند كلينك الطبية الأمريكية: "نعلم أن أشعة الشمس تساعد في تنظيم مستوى السيروتونين (ناقل عصبي يُعتقد أنه مسؤول عن توازن المزاج) في الجسم، وانخفاضه في الشتاء قد يؤدي إلى هبوط المزاج".
لكن لماذا يشعر البعض بـ "حزن الصيف"؟
على عكس لينا، تتطلع دعاء (34 عاماً) إلى فصل شتاء جديد، حينها يزداد تألقها، وترتاح بهطول المطر وسماع صوت الرعد.
لم تعتد أن تحب الصيف، وتجده شديد الحرارة، وتشعر في أيامه بالتعب، وهبوط المزاج. وفي كل فصل صيف تجد نفسها بانتظار شتاء آخر، تعيش فيه سعادتها وطمأنينتها، كما تقول.
يوضح بورلاند أن الاضطراب العاطفي الموسمي في الصيف أقل شيوعاً، ويرتبط بمشاعر الانفعال والإحباط، إذ قد يؤدي إلى الأرق ونقص الطاقة والدافعية.
وفي كثير من الأحيان فإن "بعض الأعراض التي ستلاحظها من الاكتئاب الموسمي الصيفي، في الواقع عكس ما قد تشعر به في الشتاء. على سبيل المثال، خلال أشهر البرد، قد يُسبب الاكتئاب الموسمي زيادة في الشهية، بينما خلال الصيف، ستفقدها".
ويضيف بورلاند أن ذلك يعود "لمجموعة من العوامل الفسيولوجية والبيئية"، مثل: "الشعور بالإرهاق بسبب الحرارة المرتفعة، وتغيرات في روتين الجسم الليلي والنهاري بسبب طول النهار وتغير الأنشطة، أو الحساسية الموسمية، أو الشعور بضغط دائم للاستمتاع".
وفي وقت يزداد فيه من هم عرضة للاضطراب الموسمي العاطفي شتاء أو في فصل الخريف، كما توضح النجار، فإن من يصابون به صيفاً هم غالباً ممن يتعرضون لأشعة الشمس والحرارة بشكل أكبر، وعادة يعملون في مهن خارجية، وفق الطبيب العمري.
ويأتي الاضطراب صيفاً مع "عدم قدرة على النوم عادة وشعور أكبر بالقلق والعصبية"، كما يشرح العمري.
لم يُعرّف تغير المزاج المرتبط بالمواسم، كاضطراب سريري قابل للعلاج إلا في ثمانينيات القرن الماضي.
في تلك الفترة، عندما انتقل الطبيب نورمان روزنثال من موطنه الأصلي في جنوب أفريقيا إلى الولايات المتحدة، لاحظ أنه يصبح أقل إنتاجية خلال فصل الشتاء، لكنه يعود إلى طبيعته بمجرد قدوم الربيع.
وأثناء عمله في المعاهد الوطنية للصحة (NIH) في الولايات المتحدة، تعاون مع الطبيبين والباحثين أل ليوي وتوم وير، -كان الأول مهتماً بدراسة هرمون الميلاتونين، والثاني يبحث في كيفية تأثير الضوء في تنظيم الساعة البيولوجية والحد من إفراز الميلاتونين-، توصلوا معاً إلى أن العلاج بالضوء الساطع، قد يكون فعالاً لعلاج المصابين بالاضطراب العاطفي الموسمي شتاءً.
يوضح موقع مايوكلينك الطبي الفرق في أعراض الاضطراب العاطفي بين كل موسم وآخر. ففي الخريف والشتاء تتمثل الأعراض بـ: "الإفراط في النوم، تغيرات في الشهية ورغبة مُلحّة في تناول أطعمة غنية بالكربوهيدرات، زيادة الوزن، الشعور بالتعب وقلة النشاط".
أما في موسم الصيف والربيع فإن المصابين باضطراب في هذين الموسمين، فيكونون غالباً عرضة للإصابة بـ ""صعوبة في النوم (الأرق)، ضعف الشهية، نقص الوزن، الهياج أو القلق، سهولة الاستثارة".
"من الطبيعي أن تشعر بحالة مزاجية سيئة في بعض الأيام. لكن إذا داهمتك هذه الحالة لأيام ولم تجد حافزاً كافياً لممارسة الأنشطة التي تستمتع بها عادةً، فراجع طبيبك"، وفق نصيحة مايوكلينك.