يبقى المخرج داوود عبد السيد، الذي رحل عن عالمنا، أحد المجددين الكبار في الفكر السينمائي المصري والعربي الحديث، وتكمن القيمة الفنية له في عدد من الجوانب التي جعلته شخصية فنية بارزة وذات تأثير كبير.
لا ينتمي إلى سلالة المخرجين الذين يقاسون حضورهم بعدد الأفلام أو بحجم الإيرادات، بل إلى فئة نادرة تعاملت مع السينما بوصفها وسيلة للتفكير قبل أن تكون وسيلة للعرض. منذ بداياته، بدا واضحًا أن مشروعه لا يلهث خلف السوق، ولا يهادن السلطة، ولا يغازل الجمهور، بل يراهن على سؤال مركزي: كيف يعيش الإنسان المصري داخل منظومة أكبر منه؟
فمدرسته تسعى إلى تقديم الإنسان العادي وقضاياه الاجتماعية بعمق وصدق بعيدًا عن الترف البصري أو الترفيه السطحي، مع تصوير التغيرات الاجتماعية والسياسية في المجتمع. تجسدت هذه الرؤية بشكل قوي في أعماله السينمائية التي تحمل معالجة إنسانية وشاعرية للحياة اليومية.
خمسة أفلام أساسية يمكن اعتبارها أعمدة هذا المشروع، لا لأنها الأشهر فقط، بل لأنها الأكثر تعبيرًا عن رؤيته الفنية والفكرية.
يمثل فيلم «البحث عن سيد مرزوق» حجر الأساس في سينما داوود عبد السيد. حكاية موظف بسيط يدخل عالمًا غامضًا بحثًا عن شخصية غير مرئية، تتحول سريعًا إلى رحلة داخل بنية السلطة نفسها.
لا يقدم الفيلم سلطة محددة أو نظامًا بعينه، بل يصورها كقوة مراوغة، بلا وجه ثابت، تحاصر الفرد وتعيد تشكيل وعيه.
فنيًا، يعتمد عبد السيد على فضاءات مغلقة، وإيقاع متوتر، وسرد أقرب للحلم الثقيل، ليجعل المشاهد شريكًا في حالة الارتباك. هنا، لا تُقال الأفكار مباشرة، بل تستشعر. لذلك ظل الفيلم حيًا في الذاكرة النقدية بوصفه أحد أكثر الأعمال المصرية جرأة في تشريح علاقة الفرد بالقوة الغامضة التي تتحكم في مصيره.
في «الكيت كات» يصل داوود عبد السيد إلى ذروة التوازن بين الفكر والجمهور.
الشيخ حسني، الكفيف الذي يرى الحياة أكثر من المبصرين، ليس مجرد شخصية محبوبة، بل رؤية كاملة للعالم: التمسك بالبهجة بوصفها فعل مقاومة.
الفيلم يقدم الحارة الشعبية دون رومانسية زائفة أو إدانة أخلاقية. الضحك هنا ليس هروبًا من الواقع، بل وسيلة لفهمه.
فنيًا، نجح عبد السيد في تحويل المكان إلى كائن حي، وفي إدارة الممثلين بذكاء بالغ، خاصة محمود عبد العزيز الذي قدم واحدًا من أهم أدواره على الإطلاق.
تكمن القيمة الفنية للفيلم في أنه أثبت أن السينما الجادة لا تعني العبوس، وأن العمق يمكن أن يصل إلى الجمهور دون تنازل.
فيما يُعد «أرض الخوف» الفيلم الأكثر إثارة للجدل فلسفيًا في مسيرة داوود عبد السيد.
ضابط يتغلغل في عالم المخدرات، لكنه يفقد تدريجيًا الحدود بين الدور والذات، بين الواجب والانجذاب. هل مازال يمثل القانون أم أصبح جزءًا من الفوضى؟ يفقد يقينه.
الفيلم لا يقدم إجابات، بل يطرح سؤالًا خطيرًا:
ماذا يحدث حين يطول البقاء في الظل؟
سيناريو محكم قائم على التحول الداخلي، رمزية كثيفة، ونهاية مفتوحة تدعو للتأويل، جعلت الفيلم مادة دائمة لإعادة القراءة.
«أرض الخوف» ليس فيلم جريمة، بل تأمل عميق في هشاشة القيم حين تُختبر خارج الشعارات، وهو ما يفسر مكانته الخاصة في تاريخ السينما المصرية.
في فيلمه «مواطن ومخبر وحرامي» طرح السياسة في أبسط صورها.
بثلاث شخصيات فقط، يرسم داوود عبد السيد خريطة مصغرة للمجتمع.
المواطن العادي، المخبر، والحرامي، ليسوا نماذج كاريكاتورية، بل ضحايا شبكة واحدة من الخلل الاقتصادي والاجتماعي.
قوة الفيلم تكمن في بساطته. لا خطب، لا شعارات، فقط مفارقات إنسانية تكشف كيف يمكن للظلم أن يعيد إنتاج نفسه داخل الجميع.
هنا، يمارس عبد السيد واحدة من أهم سماته: رفض الإدانة المطلقة، فكل شخصية مفهومة، وإن لم تكن مبررة.
في فيلمه الأهدأ والأكثر تأملًا، «رسائل البحر» قدم العزلة كمرآة للذات، حيث يبتعد داوود عبد السيد عن الصخب الاجتماعي المباشر، ليغوص في عزلة الإنسان المعاصر.
الإسكندرية هنا ليست مدينة سياحية، بل فضاء نفسي، والبحر ليس رمزًا للحرية فقط، بل للوحدة أيضًا.
إيقاع بطيء، صورة شاعرية، وشخصية تبحث عن سلام داخلي لا يبدو ممكنًا.
يمثل الفيلم نضجًا واضحًا في أسلوب عبد السيد، حيث تصبح الأسئلة أكثر خصوصية، دون أن تفقد بعدها الإنساني العام.
القيمة الفنية لداوود عبد السيد لا تكمن في عدد أفلامه، بل في تماسك مشروعه. هو مخرج يثق في عقل المتفرج، يرفض المباشرة، ويرى السينما مساحة للأسئلة لا منصة للإجابات.
من «البحث عن سيد مرزوق» إلى «رسائل البحر»، ظل داوود عبد السيد شاهدًا نقديًا على تحولات الإنسان المصري، وصانعًا لسينما تعيش أطول من زمن إنتاجها، لأنها لا تلهث خلف اللحظة، بل تحفر في جوهرها.
المصدر:
الشروق