بيروت – عند ساعات الصباح الأولى من اليوم الخميس، وفي الساحة الواسعة على الواجهة البحرية للعاصمة بيروت -مركز البيال للمعارض- اصطفت الحافلات البيضاء، أمامها وجوه متعبة، وأيادٍ متشبثة بالأطفال، وحقائب صغيرة بالكاد تتسع لضرورات العيش.
ينظم عناصر الأمن العام اللبناني حركة الدخول إلى القوافل التي تستعد للتحرك نحو معبر المصنع الحدودي مع سوريا ، في مشهد يعلن انطلاق المرحلة الثانية من خطة الحكومة اللبنانية لإعادة النازحين السوريين.
تصف السلطات هذه العملية بـ"العودة الطوعية والمنظمة"، وتتم تحت إشراف مباشر من الأمن العام اللبناني وبالتنسيق مع السلطات السورية، وبمشاركة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين و المنظمة الدولية للهجرة والصليب الأحمر اللبناني، إضافة إلى منظمات إنسانية محلية ودولية.
وراء المشهد الرسمي، تتناثر حكايات مثقلة بسنوات النزوح. تقول سهى، أم لثلاثة أطفال، للجزيرة نت، إنها لم تعد قادرة على البقاء في لبنان بعد توقف المساعدات وتراجع الخدمات التعليمية. وتضيف "أطفالي انقطعوا عن المدرسة ولم نعد نتحمل تكاليف السكن، العودة أصبحت خيارنا الوحيد".
وعلى مقربة منها، تصطف عائلة من 5 أفراد بانتظار ركوب الحافلة، وجه الأب أبو ياسر يحمل قلقا واضحا لكنه يحاول إخفاءه عن أطفاله، ويقول للجزيرة نت "أولادي كانوا يتعلّمون في المدارس الحكومية هنا، وأول ما سأفعله في سوريا هو تسجيلهم مجددا، التعليم بالنسبة لنا أهم من كل شيء، والحياة أصبحت صعبة جدا في لبنان".
تبقى المساعدات هاجسا يلاحق العائدين، فقد أبلغتهم المنظمات بوجود دعم نقدي يصل إلى 100 دولار للفرد عند مغادرة لبنان، و400 دولار للعائلة عند وصولها إلى سوريا، غير أن التسليم قد يتأخر لأشهر.
أما السكن، فلم تُعطَ أي ضمانات بشأنه. وكثيرون حملوا معهم أثاثا بسيطا (غسالة صغيرة أو أدوات مطبخ) لكن التعليمات سمحت بـ5 كيلوغرامات فقط من الأغراض الشخصية لكل فرد.
بدورها، تروي أم تيسير، التي كانت تقيم في جبل لبنان، أنها كانت تتلقى بدل إيجار من المفوضية، لكن مع تقليص المساعدات أصبحت الحياة أكثر صعوبة، وتؤكد "نغادر اليوم ومعنا فقط ما سمحوا به من أمتعة شخصية، بينما تركنا كل أغراض المنزل وراءنا".
وسط الحشود، يبرز مشهد آخر يجسد معاناة طويلة، عائلة أبو علاء من ريف حماة ، المكونة من 6 أفراد، كانت قد وصلت إلى لبنان عام 2014 بعد أن دُمّر منزلها في الحرب.
يقول الأب للجزيرة نت "عملت في البناء طوال 10 سنوات، بالكاد كنت أؤمن قوت يومنا، لكن الأزمة الاقتصادية في لبنان أنهكتنا، الآن سنعود إلى ريف حماة وسنسكن في منزل شقيقي مؤقتا، أعرف أن الحياة لن تكون سهلة، لكن لا خيار آخر".
وتضيف زوجته "أكبر همّ عندي هو مستقبل أولادي، أريد أن يعودوا إلى المدارس فقد ضاع منهم الكثير".
لم تخلُ الإجراءات من ازدحام وانتظار طويل، لكن كثيرين يعتقدون أنها أهون من البقاء في لبنان، حيث تقلصت المساعدات الدولية وتفاقمت الأزمة الاقتصادية.
ويقول أبو خليل، العائد إلى مدينة حماة، للجزيرة نت "اليوم نعود إلى ديارنا التي أصبحت أكثر أمنا، لم يعد ممكنا البقاء هنا، سنعيد ترتيب حياتنا من جديد".
وحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فقد عاد نحو 300 لاجئ سوري اليوم ضمن برنامج العودة المُيسّر، حيث قُدمت لهم استشارات قانونية ومساعدات نقدية وفحوصات طبية أساسية، إضافة إلى حملات توعية حول أخطار النزوح المتكرر.
وتشير الإحصاءات -وفقا للمفوضية- إلى أن أكثر من 238 ألف لاجئ عادوا طوعا منذ بداية العام الجاري، في حين أبدى 114 ألفا آخرون رغبتهم في الاستفادة من البرنامج.
وتؤكد المفوضية والمنظمة الدولية للهجرة استمرار التعاون مع الأمن العام اللبناني ووزارة الشؤون الاجتماعية لضمان التزام العملية بالمعايير الدولية، مع التركيز على حلول مستدامة تمنع تكرار النزوح، وتساعد العائدين على إعادة بناء حياتهم بكرامة وأمان.
سياسيا، تقول الحكومة اللبنانية إن إعادة السوريين تمثل "ضرورة وطنية"، فقد عقدت لجنة الشؤون الخارجية والمغتربين جلسة، أمس الأربعاء، برئاسة النائب فادي علامة لمتابعة تنفيذ الخطة، وخلال الاجتماع عرض نائب رئيس الوزراء طارق متري ووزيرا الشؤون الاجتماعية والعدل أبرز ملامح العملية، مؤكدين رفض لبنان "للتوطين" والتشديد على التعاون مع الحكومة السورية لتأمين عودة آمنة وسريعة.
وشمل النقاش أيضا مسألة ضبط الحدود ومنع العودة غير المنظمة، مع تقديرات تشير إلى إمكانية عودة ما بين 200 ألف و250 ألف نازح خلال الفترة المقبلة، على أن يرتفع الرقم إلى نحو 400 ألف.
كما تطرق النواب إلى أثر اليد العاملة السورية على الاقتصاد اللبناني، حيث باتت تحتل موقعا رئيسيا في قطاعات عدة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بين اللبنانيين. وجرى الاتفاق على دعوة وزير العمل إلى عرض خطة تنظم أوضاع العمالة وتحدد أعداد الحاصلين على إقامات عمل.
وحضر ملف التعليم النقاش، خصوصا مع اقتراب انطلاق العام الدراسي الجديد، حيث تقررت دعوة وزيرة التربية لتقديم خطة واضحة بشأن استيعاب التلاميذ السوريين والإجراءات المتبعة.
وقال النائب علامة "هناك الكثير من الأسئلة التي لا تزال عالقة"، مشددا على أن الملف يحتاج إلى رؤية وطنية متكاملة تحدد المدى الزمني لتراجع أعداد النازحين، وتضع آليات لحصر وجودهم بالعمالة المنظمة فقط.
وبين الإجراءات الأمنية والمداولات السياسية، وحركة الحافلات والحقائب الصغيرة، يطوي السوريون العائدون فصلا طويلا من النزوح.
رحلة تبدأ من بيروت المزدحمة وتمضي نحو معبر المصنع، تحمل ما خفّ من المتاع وما ثقل من الذكريات، بحثا عن بداية جديدة في مدن غابوا عنها طويلا، لكن ما ينتظرهم هناك يظل مرهونا بقدرتهم على إعادة بناء ما تهدم في حياتهم قبل منازلهم.