آخر الأخبار

من أسرار الحضارات إلى ترندات تيك توك: رحلة العطور عبر العصور

شارك
يعود تاريخ العطور إلى العصور القديمة.صورة من: Herve Champollion/akg-images/picture alliance

ما إن تُذكر كلمة "عطر" إلاّ ويتبادر إلى الأذهان السوائل العطرية داخل القوارير الفاخرة، إلاّ أن الاسم نفسه، المشتق من اللاتينية per fumum — والذي يعني "عبر الدخان" — يشير إلى أن ما نعرفه في يومنا هذا عن كلمة "عطر" يختلف جذرياً عن أصوله واستخداماته لدى أسلافنا. ويُعد انتشار العطور عبر الزمن بمثابة دراسة في الاكتشافات العلمية، ونقل المعرفة، وتوسع التجارة، والاستعمار، واستخراج الموارد الطبيعية بالإضافة إلى أساليب التسويق.

لوحة تصور صانعي العطور أثناء جلب الأزهار وصناعة المواد الاولية للعطورصورة من: Fine Art Images/Heritage Images/picture alliance


رائحة قديمة قدم الزمن


ذكرت موسوعة "بريتانيكا" أن الصينيين و المصريين ، والعبرانيين، والقرطاجيين، والعرب، واليونانيين، والرومان كانوا على دراية بفن صناعة العطور، فضلاً عن وجود إشارات إلى العطر واستخدامه في الكتاب المقدس وكذلك في الأحاديث النبوية.
ويرجع تاريخ صناعة العطور إلى أكثر من 4000 عام في بلاد ما بين النهرين، حيث كان يتم حرق مواد عطرية مثل اللبان والمر، اعتقاداً بأن دخانها المتصاعد يربط الأرض بالعالم الإلهي. وفي ذلك الصدد، تشير موسوعة "بريتانيكا" أن أقدم "أنف" مسجل — أي صانعة عطور بارعة — كانت امرأة تُدعى تابتوتي، كيميائية وثّقت أعمالها على لوح مسماري يعود إلى حوالي 1200 قبل الميلاد.


وفي ذلك السياق، يقول المؤرخ وصانع العطور ألكسندر هيلواني: "كانت تابتوتي تنتمي إلى فئة مهنية مميزة من صانعي العطور المرتبطين بالبلاط الآشوري والبابلي ، وتكمن أهميتها في إثبات أن النساء شغلن مناصب رفيعة في البلاط الملكي بمجال صناعة العطور".
ووفقاً للعالمة باربرا هوبر، المتخصصة في الكيمياء الأثرية، فإن "العطر" مع مرور الزمن شمل مجموعة واسعة من المواد والطرق مثل: حرق البخور والأخشاب العطرية، والزيوت المعطرة، والبلسم، والمراهم، وحتى مستحضرات التجميل.
وأضافت هوبر: "كثير من هذه الاستخدامات لم تكن للزينة الشخصية فقط، بل لطقوس خاصة، وتقديم القرابين للآلهة، والتطهير أو العلاج؛ وغالباً ما كانت الحدود بين العطر والدواء ومستحضرات التجميل غير واضحة".
في مصر القديمة، كانت الزيوت والراتنجات العطرية — وهي إفرازات نباتية طبيعية — أمراً لا غنى عنه في الطقوس والتحنيط؛ بينما في الهند كان يُستخدم معجون الصندل على الجلد، والياسمين على الشعر، والزعفران يُنسج في الملابس وهي إحدى الممارسات الحسية التي تستهدف تقديس الجسد نفسه.، كما أظهرت أبحاث حديثة أن التماثيل اليونانية والرومانية للآلهة كانت تُعطر بمواد عطرية لتبدو أكثر واقعية.

لوح مسماري من عصر أوروك صورة من: public domain


من الدخان إلى التقطير


تحول البخور والبلسم في العالم العربي إلى تقطيرات سائلة خلال العصر الإسلامي، على سبيل المثال وليس الحصر في القرن التاسع في بغداد، ألّف العالم الموسوعي الكندي كتاب "كيمياء العطور والتقطير"، وهو أول دليل شامل في صناعة العطور.
وبعد قرن، قام ابن سينا بتحسين تقنية التقطير بالبخار لاستخراج "العطور" (الزيوت الأساسية) من الأزهار، خصوصاً الورد الذي أصبح نموذجاً لصانعي العطور اللاحقين؛ لتصبح الأبحاث التي قام بها العالمان بمثابة حجر الزاوية التي تقوم عليها صناعة العطور الحديثة.

إناء عطر من الطين على شكل أرنب من العصر الأتروري يعود تاريخه إلى حوالي 550 قبل الميلاد.صورة من: Liszt Collection/picture alliance

انبهار أوروبي

عرفت أوروبا هذه التطورات في عالم العطور عبر قنوات متعددة، كان أبرزها الأندلس، ولا سيما المناطق التي خضعت للحكم الإسلامي في إسبانيا والبرتغال ما بين القرنين الثامن والخامس عشر. فقد مثّلت الأندلس جسراً علمياً مهماً انتقلت عبره الترجمات التي أنجزها العلماء من العربية إلى اللاتينية. وإلى جانب ذلك، أسهمت التجارة المتوسطية في نقل ماء الورد والتوابل إلى موانئ كالبندقية وجنوة، كما أتاحت الحملات الصليبية للأوروبيين احتكاكاً مباشراً بالممارسات الطبية والعطرية في العالم العربي.


على الرغم من ذلك، فإن أوروبا لم تكن تجهل العطور تماماً؛ إذ عرف الرومان الحمّامات والزيوت المعطرة، كما استخدم نبلاء العصور الوسطى الأعشاب والبخور والكرات العطرية. وفي تلك الفترة، لم يكن العطر مجرد ترف، بل أداة ذات وظائف عملية ورمزية؛ فقد لجأ الأطباء إلى وضع الأعشاب داخل أقنعة تشبه مناقير الطيور لتنقية ما كانوا يعتقدون أنه "هواء فاسد" تسبب في الطاعون الأسود، بينما اشتهر الملك لويس الرابع عشر في فرنسا بإغراق قصر فرساي بماء زهر البرتقال، وكانت القفازات المعطرة وسيلة لإخفاء الروائح الكريهة إلى جانب كونها رمزاً للأناقة.
غير أن التقنيات المتقدمة التي طورها علماء العالم العربي، إلى جانب ثراء مكوناتهم العطرية، أعادت إحياء صناعة العطور في أوروبا، وأسهمت في تحويلها إلى حرفة متطورة، خاصة مع اعتماد الكحول كأساس لصناعة عطور أخف وزناً وأكثر ثباتاً.

اشتهر الملك لويس الرابع عشر في فرنسا بإغراق قصر فرساي بماء زهر البرتقالصورة من: Granger/IMAGO

علاقة العطور بالاستعمار

مع ازدهار صناعة العطور في أوروبا، خصوصاً في فرنسا، وفّر التوسع الاستعماري المكونات التي غذّت هذه الصناعة الناشئة.
ويقول ألكسندر هيلواني: "تميل الصور التسويقية إلى تقديم المواد الخام كهدايا أزلية من الطبيعة، غالباً بإطار استشراقي ما بعد استعماري، بينما تُغفل الأسئلة المعقدة حول ملكية الأراضي وظروف العمل والأسعار والأثر البيئي".
ومن الأمثلة البارزة الفانيليا التي جُلبت إلى أوروبا من قبل الإسبان في القرن السادس عشر، وأصبحت محصولاً استعمارياً رئيسياً في المحيط الهندي. ويشير هيلواني إلى قصة إدموند ألبوس، الصبي المستعبد في جزيرة ريونيون (بوربون سابقاً)، الذي اكتشف وهو في الثانية عشرة من عمره عام 1841 الطريقة العملية لتلقيح زهور الفانيليا يدوياً.
ويضيف هيلواني: "لولا اكتشافه، لبقيت الفانيليا نادرة؛ في عالم مليء بالتقنيات المسجلة ببراءات اختراع، كثيراً ما تساءلت كم كان يمكن أن يصبح إدموند ألبوس مليارديراً لو لم يكن مستعبداً"، مؤكداً أن "حين نتحدث عن تاريخ العطور فإننا نتحدث في الوقت نفسه عن تاريخ الإمبراطوريات والتجارة والاستعمار".

كان أطباء العصور الوسطى يرتدون أقنعة ذات شكل منقاري مملوءة بالأعشاب اعتقاداً منهم أنهم سينجون من الطاعونصورة من: Heinz-Dieter Falkenstein/imageBROKER/picture alliance

تسويق بنكهة أوروبية

مع مرور الوقت، أصبحت دور العطور الأوروبية مركزية في العلامة التجارية والتسويق، مثبتة ارتباط الرقي بالذوق الأوروبي.
تقول باربرا هوبر: "بينما تأتي المكونات الأساسية من مناطق عالمية متنوعة ذات تقاليد تاريخية غنية في استخدام الروائح، فإن السرديات التسويقية غالباً ما تكون أوروبية التوجه".
وبالتالي، فإن بعض دور العطور الأوروبية التي صنّفت الروائح كـ"شرقية" واجهت انتقادات كبيرة. وكما جاء في عريضة على موقع change.org تعترض على هذا التصنيف: "يحاول مصطلح 'الشرق' أن يشمل منطقة شاسعة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا، حيث نشأت العديد من ممارسات صناعة العطور والمواد الخام. إن الاستخدام المستمر للمصطلح لاستدعاء الغرابة والعطرية يتجاهل الاستعمار و الإسلاموفوبيا التي لا تزال تزعزع استقرار هذه المناطق حتى اليوم". ومنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهد التسويق تحولاً حيث أصبح مصطلح "الكهرمان" يُستخدم لوصف الروائح الدافئة والتوابل.

تأثير "بيرفوم توك"


اليوم، بات الجمهور العالمي قادراً على اكتشاف عطور كانت يومًا ما محصورة في نطاقات محلية أو إقليمية، وذلك بفضل مؤثري تيك توك ومقاطعهم واسعة الانتشار. ومن أوائل الظواهر على «بيرفوم توك»، الوسم المخصص لمحتوى العطور على المنصة، برز عطر Missing Person من علامة Phlur، الذي نفد من الأسواق عام 2022، وأسفر عن قائمة انتظار تجاوزت 200 ألف شخص في الولايات المتحدة . ولم يقتصر تأثيره على النجاح التجاري فحسب، بل فتح المجال أمام محتوى عاطفي استعاد فيه المستخدمون ذكريات أحبّائهم بمجرد استنشاق رائحته.
في المقابل، يعمل رواد أعمال شباب في الهند على إعادة تقديم العطور الزيتية التقليدية، المصنوعة بطرق تعود إلى قرون مضت، بوصفها منتجات فاخرة ومستدامة، مستخدمين إنستغرام والسرد الرقمي كأدوات رئيسية. وتكشف هذه التجارب كيف يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تعيد ربط المستهلكين بإرث عطري طالما همّشه الاستعمار التجاري.
وكما لا يستطيع عطر واحد أن يختزل جميع روائح العالم، لا يمكن لرواية واحدة أن تحيط بكل هذا التاريخ المتنوع. وهي فكرة يلخصها ألكسندر هيلواني الأمر بقوله: "كل رشة عطر تحمل إرثًا ثقيلاً، إنها لفتة صغيرة على البشرة، لكنها تختزن خلفها تاريخًا شديد التنوع."

أعدته للنشر: ولاء جمال ، تحرير: ابتسام فوزي


DW المصدر: DW
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار