آخر الأخبار

معجم الدوحة التاريخي.. لحظة القبض على عقل العربية

شارك

تعد صناعة المعجم التاريخي من أدق ما يمكن أن ينهض به اللغوي في دراساته، وهي غير مقصورة على جمع الشواهد فحسب، أو ترتيب الحقول الدلالية، أو تصنيف المعاني وفق تسلسل زمني. لكنها، في جوهرها العميق، مشروع معرفي يرمي إلى الإمساك بعقل اللغة ذاته، ذلك العقل المتشكل عبر القرون، المدفون في جنبات النصوص وتراكيبها، والموزع بين الاستعمالات المختلفة للناطقين بها.

أما المعجمي الذي يسعى إلى القبض على هذا العقل، فمهمته أوسع وأعمق وأدق من مجرد باحث تقني يجمع الشواهد ويتقصى دلالات الألفاظ فيها؛ إنه عقل نقدي واع متأهب، شديد الوعي بحدود اللغة وإمكاناتها، قادر على ممارسة نوع من التجلي المعرفي، أشبه بما يسميه المتصوفة "الكشف العرفاني" أو ما عبر عنه أرخميدس بصيحته الشهيرة "وجدتها!".

وتلك اللحظة يلتقي فيها عقل اللغوي بعقل اللغة، فيرى ما قد لا يراه غيره، ويفهم الضمني لا المقول صراحة وحده، ويكتشف التحول الداخلي في بنيات الكلمة ومعانيها.

الحقل اللساني

ولكي تستوي هذه الفكرة، لا بد من التمييز بين 3 عقول تعمل في الحقل اللساني، ويفضي الخلط بينها إلى سوء فهم عميق لطبيعة المعجمة: العقل اللغوي، وعقل اللغوي، وعقل اللغة.


* فالعقل اللغوي هو القدرة الفطرية التي يشترك فيها أبناء الجماعة الناطقة، مما يجعلهم يفهمون جملة لم يسمعوها من قبل، أو يدركون مجازا لم يدرس لهم، أو يلتقطون معنى من سياق شارد. إنه قدرة طبيعية تعمل داخل المتكلم (اللاغي) دون وعي، وتختزن فيها خبرة الجماعة وذاكرتها الجمعية.
* أما عقل اللغوي فهو ملكة أخرى، لا يقوم بها إلا الباحث الرصين المتخصص، الذي يتجاوز استعمال اللغة إلى تأملها. إنه عقل تحليلي نقدي، يشتغل على النصوص، ويوازن بين النظريات، ويختبر الفرضيات الدلالية، ويضع حدود التعريف وملامحه، ويتتبع تحولات المعنى عبر الزمن. ويعمل عقل اللغوي فوق اللغة، بينما يعمل العقل اللغوي داخلها.
* وأما المفهوم الأعمق فهو عقل اللغة، أي المنطق الداخلي الذي تنتظم به اللغة نفسها، وفلسفتها في ترتيب العالم، وقواعدها في تجريد المعنى، وطرائقها في تصنيف الظواهر، وآلياتها في الابتكار والمجاز والتوسع والقصر الدلاليين. وهذا العقل لا يمكن أن تعبر عنه قدرة فردية ولا قدرة جماعية، إذ هو النظام الذي ينتج هذه القدرة في الناطقين (اللاغين) وهو الأساس الذي تبنى عليه البنية الاشتقاقية والنحوية والصوتية والدلالية. إن عقل اللغة باختصار هو روح اللغة.
إعلان

واللحظة التي يفلح فيها عقل اللغوي، عبر أدواته ونقديته ووعيه وتحليله، في الإمساك بهذا النظام الداخلي -في رؤية ما كان خفيا، وتركيب ما كان متفرقا، وتفسير ما كان لغزا- استثنائية تشبه "التطابق" بين صورتين، أو التقاء رافدين في نهر عظيم. وهنا يبدأ المعجم التاريخي في أخذ شكله الحقيقي، لا بوصفه قاموسا للألفاظ والمعاني، إنما بوصفه وثيقة لرحلة العقل في اللغة.

وتظهر الصعوبة الحقيقية في المعجم التاريخي عند التعامل مع المعنى والتعريف، فالمعنى بطبيعته ليس وحدة مغلقة أو ثابتة. إنه كائن حي يتحرك، يتقلب بحسب الزمن والسياق والمكان. ويتسع حينا، ويتقلص حينا آخر، وينزاح إلى المجاز أو التخصيص أو التعميم. والمعنى "صيد" حركي، مراوغ، مرتبط بالحياة اليومية وبالتجربة الإنسانية.

أما التعريف، فهو "قيد" إنه صياغة لغوية تنشد الدقة، وتتوخى الإحكام، وتبتعد عن الدور، وتحاول عبر كلمات محدودة أن تنقل جوهر معنى واسع ذهنيا وثقافيا. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: كيف يختزل كائن حي نشأ في الزمن وتحول مع المجتمع، في عبارة قصيرة محدودة تسجل في المعجم؟ ويعمل عقل اللغوي هنا عمل المترجم الذي ينقل للمتلقي ما كان يدور في ذهن (اللاغي) حين تكلم أو كتب، وكأنه يترجم الأفكار الغائبة الممكنة ليحققها بالفعل عيانا.

ويزداد هذا التعقيد عندما يكون المعجم أحادي اللغة، أي عندما تستعمل اللغة ذاتها في تعريف مفرداتها. وفي هذه الحالة، تصبح اللغة واصفة وموصوفة في الوقت نفسه، وتدور عملية التعريف داخل النظام نفسه دون أن تكون هناك لغة خارجية تعين على الفصل بين الذات والموضوع.

ففي المعاجم ثنائية اللغة، تتولى اللغة الأخرى مهمة الوصف. أما في المعاجم الأحادية، فاللغة تعرف نفسها بنفسها مما يفرض على المعجمي مستوى أعلى من الدقة، وينشئ دائرة دلالية مغلقة تتطلب مهارة استثنائية في صياغة التعريف بحيث لا يقع المعجمي في الدور، ولا يستعمل الكلمة لتعريف نفسها أو مشتقاتها. ويصبح لزاما عليه أن يخرج على طرائق الأقدمين الكلاسيكية في التعريف بالمرادف: "قام: وقف" أو بالضد: "الأبيض: ضد الأسود" أو بمجرد القول: "النخل: معروف".

ومع ذلك كله، فإن المشكلة الأشد تعقيدا في صناعة المعجم التاريخي ليست التعريف وحده، وإن كان أصعب عملياته، بل تكمن في المتن اللغوي (Corpus) أي مجموع النصوص التي يعتمد عليها المعجم في استنباط المعاني وتتبعها تاريخيا.

فاللغة لا تظهر نفسها إلا عبر النصوص، والنصوص لا تمثل إلا جزءا من الاستعمال الحقيقي. وهذه معضلة منهجية عميقة. فكلما كان المتن ضيقا، محدودا، منحازا لنوع واحد من الخطاب -الديني مثلا أو الأدبي أو الفقهي- فإن صورة المعجم للغة تكون بدورها ضيقة وناقصة.

وكلما اتسعت المدونة، وتنوعت نصوصها، وتشعبت مصادرها، وامتدت عبر أجيال متعددة من الكتاب والمجتمعات، اقترب المعجم من تمثيل عقل اللغة تمثيلا حقيقيا.

العلاقة الجوهرية بين المتن والمعنى

المعجم التاريخي لا يصف "اللغة" بكونها فكرة مجردة، إنما يصف اللغة كما ظهرت في النصوص، أي كما استعملها الناس فعليا. ومن ثم، فإن قصور النصوص أو انعدامها في حقبة معينة يؤدي إلى فراغات دلالية، تجعل صورة اللغة ناقصة. وفي المقابل، عندما تتوفر نصوص غزيرة ومتنوعة، فإن المعجم التاريخي يصبح قادرا على رسم خريطة دقيقة للمعنى: متى ظهر؟ كيف تحول؟ أي بيئة أنتجته؟ متى اندثر؟ وكيف اتسعت دلالته أو ضاقت؟

إعلان

إن المعجم التاريخي، بهذا المعنى، مشروع حضاري وليس لغويا فقط، لأن نتائجه ومخرجاته تتجاوز خدمة اللغة وحدها، إلى خدمة فهمنا للحضارة التي صنعت هذه اللغة، وتاريخ الأفكار التي حملتها، وأنماط العيش التي صاغت مفرداتها، وتحولات الوعي التي نحتت دلالاتها. وفي كل هذا، يصبح عقل اللغوي شاهدا على رحلة العقل العربي، في تفاصيله الدقيقة، وفي مجازاته العالية، وفي قدرته على حمل الشاهد الثقافي والزمني داخل الكلمة الواحدة.

والمعجم التاريخي بهذا التصور أعظم من مجرد سجل للمعاني، أو فهرس للكلمات، أو مشروع لغوي تقني، إنه مرآة عقل اللغة، ومحاولة دؤوبة للإمساك بالتاريخ الداخلي للمعنى، عبر أدوات عقل اللغوي، وضمن حدود ما تسمح به النصوص.

وبين "العقل اللغوي" الذي يفعله المتكلم بالفطرة (اللاغي) و"عقل اللغوي" الذي يحسن القراءة والتحليل بوعي نقدي، و"عقل اللغة" الذي ينتج النظام ويضمره في آن، يتراءى المعجم التاريخي بين 3 عوالم، محاولا أن يصل إلى لحظة الضوء: اللحظة التي يقبض فيها عقل اللغوي على جمر اللغة، ويصيح كما صاح أرخميدس مبتهجا بالكشف "وجدتها".

وبهذا يظل المعجم التاريخي مشروعا مفتوحا على الزمن، وعلى ما يكتشف من نصوص جديدة، وعلى ما يفهمه العقل مما تختزنه الكلمات في سياقاتها، ومساحة لا يدركها إلا من بلغ تلك المرتبة الرفيعة التي تمكنه من القبض على عقل اللغة، ولو للحظة خاطفة يقيده فيها بتعريف للفظ في شاهد حي.

وقد تجسدت هذه الشروط -التي ينبغي توفرها في أي معجم تاريخي حقيقي- أوضح ما تكون في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي يعد اليوم المشروع الأقرب إلى تحقيق لحظة القبض على عقل العربية كما لم يتحقق في تاريخ المعاجم العربية من قبل.

فهذا المعجم يقوم على مدونة نصية ضخمة، محكمة التنظيم، ممتدة عبر العصور، ومبنية على جمع ممنهج للنصوص المؤرخة والمحققة من ضروب الخطاب كلها، مما أتاح لأول مرة قراءة تطور المعنى العربي في سياقه الزمني الطبيعي. ولقد استطاع هذا المشروع أن يتجاوز حدود الوصف التقليدي إلى ما يشبه الكشف المنهجي: رؤية المعنى وهو يولد في نصه الأول، ويتحول، ويتسع، ويضيق، ثم يندثر أو يستقر.

وهكذا تجاوز معجم الدوحة التاريخي مرحلة الرصد اللغوي، ليكون تجسيدا حيا لعقل العربية، ومرآة لطريقتها في بناء المفاهيم، وإعادة تشكيل العالم عبر أزمنة ممتدة. وبفضل هذا الجمع الدقيق، والتحليل السياقي الاستعمالي، والصرامة المنهجية، يتحقق للغوي -من خلال هذا المعجم- تلك اللحظة التي يتطابق فيها فهم الباحث مع منطق اللغة الداخلي، فيرى ما خفي، ويمسك بما كان عصيا على الإمساك.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار