"العمل داخل البلدية هو عمل فردي في معظمه، إذ يتخذ رئيس البلدية أغلب القرارات دون إشراك فعلي لبقية الأعضاء" تقول عائشة نجار، عضوة في بلدية عرابة. يعكس هذا الوصف أزمة أعمق تعاني منها السلطات المحلية العربية والمتمثلة في تحديات بنيوية عميقة تتعلق بالحكومة والشفافية الإدارية، تعتمد السلطات المحلية على التمويل الحكومي المحدود الذي لا يلبّي احتياجاتها الفعلية. هذا الواقع، إلى جانب نقص الموارد الذاتية والمناطق الصناعية المُنتجة للدخل، يخلق فجوات مالية كبيرة مقارنة بالبلديات اليهودية.
في ظل هذا النقص، تبرز مظاهر الفساد الإداري في بعض السلطات المحلية، منها المحسوبيات في التعيينات، وعدم الشفافية في العطاءات والمناقصات، وضعف آليات الرقابة الداخلية. كما أنّ غياب التخطيط طويل المدى وتراكم السياسات الحكومية التمييزية أسهما في إضعاف قدرة السلطات المحلية العربية على تقديم خدمات متساوية لمواطنيها، ما يعمّق أزمات الثقة بين المواطن والسلطة المحلية.
الرقابة والمناقشة — شبه مُغيّبة!
في مقابلة مع المحامي لؤي لوباني، عضو بلدية طمرة، يصف الأجواء داخل المجلس البلدي بأنها "متوترة وغير متجانسة". ويقول: "هناك بعض الأقسام تحاول إنجاز مهامها، لكن التنسيق بين المجلس واللجان ضعيف، والخلافات السياسية غالبًا ما تعيق اتخاذ قرارات واضحة وسريعة. هذا الوضع يجعل بيئة العمل صعبة ويحد من قدرة الأعضاء على المساهمة الفعلية في تحسين الخدمات".
ويضيف لوباني : "للأسف، لا يمكن القول إن هناك شفافية حقيقية في عمل البلدية اليوم. المعلومات لا تصل بالشكل المطلوب، ودور اللجان التي يُفترض أن تكون العنوان الأساسي للرقابة والمناقشة — شبه مُغيّب. كثير من القرارات تُتخذ خارج الأطر الرسمية أو دون عرضها بشكل مفصّل على الأعضاء. في ظل هذا الواقع، تبقى قدرة المعارضة على ممارسة دور رقابي فعلي محدودة جدًا، رغم محاولاتنا المستمرة للوصول إلى المعطيات وطرح الأسئلة داخل الجلسات".
ويشير:" المتابعة الرسمية للمشاريع والميزانيات ضعيفة وغير كافية. التقارير الدورية غالبًا ما تكون ناقصة أو غير متاحة للأعضاء بشكل كامل، ما يجعل من الصعب تقييم الأداء ومحاسبة المسؤولين عند الحاجة. نحن كمعارضة نحاول مراقبة المشاريع ميدانيًا وطرح التساؤلات خلال الجلسات، لكن بدون آليات متابعة واضحة وشفافة، تظل الرقابة شكلية وليست فعالة كما يجب".
ويؤكد لوباني أن الخلافات السياسية بحد ذاتها ليست بالضرورة ضارة، لكن في الواقع الحالي، تتحول الخلافات أحيانًا إلى عائق أمام الرقابة والمساءلة، وهذا يخلق مساحة لتمرير مخالفات أو تجاوزات دون محاسبة حقيقية. يؤكد ان المنافسة السياسية يجب أن تكون وسيلة لتحسين الأداء وكشف الأخطاء، وليس مجرد صراع على المناصب أو تعطيل القرارات. ويختتم بالقول: " في القضايا الحساسة التي تتعلق بالمصلحة العامة أو الأخطاء الجسيمة، نحاول تجاوز الانقسامات السياسية والتعاون مع بعض أعضاء الائتلاف. الهدف دائمًا هو حماية حقوق المواطنين وضمان تطبيق القوانين والإجراءات بشكل صحيح. رغم الانقسامات السياسية، هناك أحيانًا إجماع على ضرورة التعامل بمسؤولية مع القضايا الجوهرية التي تمسّ المصلحة العامة".
الأزمة ليست حكرًا على السلطات العربية.
وفي السياق نفسه، يرى شريف زعبي، رئيس كتلة الجبهة في المجلس البلدي في الناصرة، أن المشكلة لا تقتصر على سلطات محلية بعينها، بل هي جزء من أزمة أوسع في منظومة الرقابة على السلطات المحلية.
ويقول زعبي: "توجد آليات رسمية للمراقبة داخل السلطات المحلية، مثل لجنة المراقبة، والمراقب الداخلي للبلدية، والمستشار القضائي، إضافةً إلى دور المعارضة والإعلام. لكن فعالية هذه الجهات تعتمد على مدى تفعيلها بشكل جدي ومسؤول، وليس التعامل معها باستهتار أو كإجراء شكلي فقط".
ويضيف: "القانون يضمن وجودها نظريًا، غير أن الوزارات الحكومية كثيرًا ما تتجاهل دور الرقابة، وتتعامل مع هذه القضايا بمنطق سياسي أكثر منه مهني، مما يضعف ثقة الجمهور ويحدّ من قدرة الأجهزة الرقابية على أداء دورها الحقيقي".
ويرى زعبي إنّ الخلافات السياسية قد تدفع قوى المعارضة، أو الجهات التي لا تتفق مع النهج القائم، إلى كشف الفساد وفضحه. فالاختلاف في الرأي، عندما يكون معارضة إيجابية تقوم على نقد السياسات الفاسدة ودعم مصلحة البلد، يساهم في رفع مستوى الوعي والرقابة، وقد يشكّل عاملًا مهمًا في الحد من انتشار الفساد.
ويختتم زعبي حديثه بالتأكيد على أن مكافحة الفساد تبدأ باختيار أشخاص نزيهين لا يخشون الشفافية ويعملون بمسؤولية تجاه المصلحة العامة. ويضيف: "إذا كان هناك فساد، فلا يجوز السكوت عنه، بل يجب مواجهته بشجاعة. على الوزارات الحكومية أن تمارس رقابة جدية ومسؤولة، لكن العامل الأهم يبقى الضغط الشعبي، فهو القوة القادرة على تغيير المعادلة من خلال المطالبة بالشفافية، ومحاسبة المسؤولين، ودعم الممارسات النزيهة التي تخدم المجتمع."
تراكم السياسات الخاطئة.
يصف رائف صدّيق عضو بلدية ورئيس قسم التربية في شفاعمرو، إن الوضع الإداري في السلطات المحلية العربية "معقد نتيجة سنوات من تراكم السياسات الخاطئة". ويقول: “الوضع الإداري يُعتبر معقّد. للأسف، هناك شبه إجماع على أن السلطات المحلية العربية تعاني من مشكلة كبيرة، سواء كانت في الائتلاف أو في المعارضة. وهذه المشكلة ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكم سياسات خاطئة اتبعتها السلطات المحلية، وشفاعمرو ليست استثناءً من ذلك".
ويضيف انه في الوضع الإداري الصحيح يجب أن يكون هناك هيكل واضح للأقسام، بحيث يعمل كل قسم ضمن صلاحياته وبمعرفة تامة لمسؤولياته. وطبيعي أن تكون هناك تحديات، كما في أي مؤسسة أخرى. كعضو بلدية، وخلال فترة إدارتي، حاولنا إدخال تغييرات على المنظومة الإدارية. القائد الحقيقي هو من يتخذ قرارات مبنية على المصلحة العامة، لا بهدف كسب محبة الناس أو إرضاء فئة معينة، بل ليخدم المواطنين جميعًا. التغيير لم يكن أمرًا بسيطًا، لكنه كان ضروريًا، لأن الهدف الأساسي كان مساعدة المواطن وتحسين واقع المدينة".
ويتطرق صدّيق إلى قضية المحسوبية بوصفها موضوعًا حساسًا في البلديات العربية، موضحًا: "إذا كنت أعرف شخصًا متعلمًا وكفؤًا وأرى أن قدراته مناسبة لوظيفة معينة، فمن الطبيعي أن أوصي به، شرط أن يتم ذلك بعد دراسة شخصيته وكفاءته المهنية. فكما يقول المثل: "اللي بتعرفه أحسن من اللي ما بتعرفه"، لكن ليس من باب التفضيل غير العادل أو الانتقاص من حق الآخرين، بل من باب المسؤولية في اختيار الشخص المناسب".
ويشير ان السؤال الحقيقي هو: "عندما يتقدم شخص لوظيفة، سواء بنفسه أو من خلال توصية، هل هو مؤهل لها فعلًا؟ إذا كانت الإجابة نعم، فمن الطبيعي النظر بجدية في ترشيحه. أنا أؤمن أن من حقي أن أوصي بشخص أراه مناسبًا، لكن لا يمكن أن أضع نفسي في موقف أقترح فيه شخصًا غير كفؤ، لأن بذلك أضر بنفسي وبمصلحة البلدية.
من يقع في مثل هذا الموقف يكون وضعه صعب جدًا، وغالبًا ما تحاول البلدية التستر على الأخطاء أو التجاوزات من خلف الكواليس. لكن في السنوات الأخيرة بدأ الوعي يتغير، لأن هذا السؤال في جوهره مهم جدًا لكل المجتمع العربي: إذا وصلنا لمرحلة نختار فيها الأشخاص المناسبين، نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في محاربة الفساد وتحسين الأداء الإداري".
ويضيف ان تحسين الرقابة الداخلية في السلطات المحلية يحتاج إلى عمل جاد على الشفافية، ليس فقط كشعار أو كلام، بل كواقع ملموس ينعكس في كل قسم وإدارة. من المهم أيضًا تجهيز الموظفين ليتعاملوا وفق الأنظمة والتعليمات، وأن يعمل قسم الرقابة بضمير ومسؤولية.
ويؤكد، أن الردع ضروري، ويجب أن فهم آلية العمل داخل السلطة المحلية بعمق. إحدى النقاط الأساسية التي يجب التركيز عليها هي بناء الثقة داخل المؤسسة: عندما يكون هناك ثقة بين الموظف ومدير القسم، يشعر الجميع بأنهم في موقع مسؤولية وليس جو من الخوف. هذا الإحساس بالثقة والالتزام هو ما يخلق بيئة عمل نزيهة ومنتجة.
نتعاون في مكافحة الجريمة.
تشير عائشة نجار، عضوة المعارضة في المجلس البلدي في عرابة: "نفتقد في الجلسات إدارة منتظمة تُناقش فيها قضايا تتعلق بإدارة البلدية والخدمات المقدّمة للمواطنين. وغالبًا ما يقتصر العمل على جلسات غير عادية تتم فيها المصادقة على ميزانيات أو خطط من الوزارات، دون نقاش عميق للسياسات العامة أو احتياجات الناس اليومية".
وتضيف نجار أن: "موضوع الشفافية محدود جدًا، سواء داخل العمل البلدي أو خارجه. نحن كمعارضة نعاني من تعتيم شبه كامل على كثير من الأمور، مثل قضايا تتعلق بحقوق الجمهور كمواطنين، أو العطاءات والمناقصات، أو حتى عمل اللجان المختلفة. حتى التقارير المالية والمصادقة على الميزانيات تتأخر كثيرًا قبل أن تُنشر بشكل رسمي. دور المعارضة في المراقبة ممكن أن يكون فعالًا إذا تم التعاون الجدي بين جميع الأطراف، لكن ذلك يتطلب التزامًا من الإدارة بالانفتاح ومشاركة المعلومات".
وتشير: "تتم المراقبة من خلال دراسة تقارير البلدية التي تُصدر عادة كل ثلاثة او ستة أشهر. هذه التقارير توضح تفاصيل الميزانيات العادية وغير العادية، وكيف تم صرف الأموال فعليًا، وهي أداة أساسية لمتابعة المشاريع وتقييم أداء الإدارات المختلفة".
أنا لا أحب تسمية العلاقة بالـ "خلافات سياسية"، بل أفضّل تسميتها "اختلافات في التوجهات". في السلطات المحلية هناك كتل وأحزاب مختلفة تمثل جمهورًا متنوعًا، وهذا التنوع ممكن يكون إيجابيًا إذا استُخدم بطريقة صحيحة. في بعض الحالات، وجود معارضة قوية ساعد في منع تجاوزات، لأن الإدارة تأخذ بالحسبان وجود من يراقبها. لكن للأسف، في بعض الأحيان تحدث تجاوزات بطرق يصعب كشفها، لأن الفساد غالبًا يتم خلف الأبواب المغلقة".
وتختتم بالقول: "أنا شخصيًا ضد فكرة "ائتلاف ومعارضة" داخل السلطات المحلية العربية، لأننا كمجتمع عربي نعيش واقعًا خاصًا. هدفنا الأساسي يجب أن يكون المصلحة العامة وليس العرقلة. نحن نعمل ونتعاون من أجل المصلحة المشتركة، خصوصًا في القضايا الكبرى مثل مكافحة الجريمة. في حالات وجود شبهات أو تجاوزات تمسّ حقوق المواطنين، مثل قضايا التمثيل في اللجان المختلفة، يكون هناك تعاون بين أعضاء المعارضة لضمان حقوقنا ومشاركة عادلة في صنع القرار. نتشاور أحيانا قبل التصويت في المواضيع المهمة، ونسعى للتعاون عندما يكون للموضوع تأثير فعلي على المصلحة العامة".
في نهاية المطاف، تكشف شهادات من داخل السلطات المحلية العربية عن واقع إداري معقّد تتشابك فيه السياسة مع المصالح، وتغيب عنه الشفافية المطلوبة لضمان الثقة والمساءلة. رغم وجود قوانين وآليات رقابية رسمية، يبقى التفعيل الفعلي مرهونًا بالإرادة السياسية والنزاهة الفردية. وبين رئيسٍ يتّخذ قراراته منفردًا، وأعضاءٍ يسعون لإحداث تغيير ضمن منظومة مثقلة بالتراكمات والتجاوزات، يظل المواطن هو المتضرر الأول من هذا الخلل البنيوي.
ومع ذلك، تبقى بوادر الأمل قائمة في الأصوات التي تطالب بالإصلاح وتؤمن بأن بناء إدارة محلية نزيهة وشفافة هو المدخل الحقيقي لتغيير واقع بلداتنا العربية وتحقيق العدالة في تقديم الخدمات والمحاسبة على حد سواء.
تقرير اعدته الصحافية غالية ابو الهيجاء، كجزءٍ من سلسلة تقارير سيتم نشرها عبر موقع بُـكرا ومنصاته، ضمن مشروع مشترك بين مركز اعلام وموقع بولتكلي في إطار مشروع " الصحافة من منظور جندري ".
المصدر:
بكرا