شهدت الأسابيع الأخيرة موجة واسعة من النقاشات حول طريقة انتخاب ممثلي لجنة المتابعة العليا، وتحديدًا حول طبيعة النظام الانتخابي، ومدى شموليته، وغياب شرائح اجتماعية عنه، وشرعية التمثيل الناتج عنه. هذه قضايا مهمة بلا شك، وتمس جوهر الديمقراطية الداخلية للجسم القيادي الأعلى للجماهير العربية. إلا أن التركيز المفرط عليها يغفل عن الإشكالية الأعمق التي تعطل عمل اللجنة منذ سنوات طويلة، وهي غياب القدرة التنفيذية، الناتج بالأساس عن غياب الموارد المالية اللازمة لتحويلها من جسم رمزي إلى مؤسسة مهنية قادرة على التأثير الحقيقي في حياة الناس. فالإصلاح الإجرائي يفقد قيمته إذا كانت المؤسسة نفسها تفتقر إلى الأدوات التي تمكنها من العمل، إذ لا يكفي تطوير آلية الانتخاب إذا بقيت اللجنة بلا جهاز تنفيذي، وبلا طاقم مهني، وبلا إدارة، وبلا موارد.
الحاجة إلى جهاز تنفيذي مهني
اعتمدت لجنة المتابعة تاريخيًا على العمل التطوعي، وهو عمل وطني مشكور لكنه غير مستدام. المجتمع العربي في إسرائيل يواجه تحديات معقدة في مجالات العنف، التعليم، الحقوق المدنية، التخطيط والبناء، والخدمات الاجتماعية. هذه التحديات لا يمكن التعامل معها عبر جهود متفرقة، ولا عبر حضور موسمي أو مبادرات تعتمد على ظروف المتطوعين ووقتهم. المؤسسة التي تمثل أكثر من مليوني مواطن تحتاج إلى جهاز عمل ثابت يقوده مدير عام محترف يتابع الملفات بشكل يومي، ينسق العلاقات مع السلطات المحلية والمؤسسات المدنية، ويحوّل القرارات إلى برامج وسياسات وآليات تنفيذ.
إلى جانب المدير العام تبرز الحاجة إلى تأسيس وحدة مهنية لجمع الموارد، يقودها مختص قادر على بناء شراكات مع القطاع الأهلي، وتحريك الموارد الاقتصادية داخل المجتمع العربي بطريقة مسؤولة وشفافة. كما يصبح تعيين مراقب مالي مستقل ضرورة لضمان إدارة الميزانية وفق قواعد الحوكمة السليمة، وتقديم تقارير دورية تعزز ثقة الجمهور وتمنع أي خشية من التأثيرات غير المرغوبة. هذه البنية المهنية هي العمود الفقري لأي مؤسسة تسعى للتحول من حالة المتابعة إلى حالة القيادة.
نحو ميزانية مستقرة وخطة استراتيجية شاملة
إن وجود ميزانية سنوية مستقرة يمثل نقطة التحول الأساسية في طبيعة عمل لجنة المتابعة، إذ يسمح ببناء برامج ممتدة في مجالات التنمية المجتمعية، تمكين الشباب، محاربة العنف، تطوير التعليم، والارتقاء بالثقافة والهوية. الميزانية ليست هدفًا بحد ذاتها، بل هي وسيلة لتأسيس بنية عمل طويلة المدى، بدلًا من البقاء أسرى ردود الفعل. فالمؤسسة التي تفتقر للموارد تظل عاجزة عن صياغة خطة استراتيجية، وبدون خطة تبقى الخطوات متقطعة، فردية، وعرضة للتبدّل مع تبدّل الظروف.
الخطة الاستراتيجية المطلوبة يجب أن تكون وثيقة عملية تحدد رؤية اللجنة للسنوات المقبلة، ترسم أولويات واضحة، وتشتق منها خطط عمل تفصيلية، تضع لكل ملف مسؤوليات، وجداول زمنية، ووسائل قياس. هذه المقاربة المهنية تحول اللجنة إلى مؤسسة ذات بوصلة واضحة، قادرة على المتابعة لا بوصفها فعلًا سلبيًا، بل بصفتها جزءًا من منظومة تنفيذ متواصلة. عند توفر هذه العناصر معًا، يصبح الانتقال من جسم مراقب إلى جسم قيادي أمرًا طبيعيًا، بل وحتميًا.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف دور لجنة المتابعة، ليس من خلال النقاش حول آليات انتخاب ممثليها فقط، بل من خلال بناء أسس مهنية تُمكّنها من أداء دورها التاريخي. فالاستقلال الحقيقي لا يتحقق بالامتناع عن الموارد، بل ببناء منظومة تمويل شفافة تستمد شرعيتها من المجتمع العربي ذاته، وتمنح اللجنة القدرة على أن تكون اللاعب الوطني الذي يتوقعه الناس ويحتاجه واقعهم المعقّد. وعندها فقط يمكن للجنة المتابعة أن تقوم بدورها كجسم قيادي مؤثر، لا مجرد هيئة رمزية تستدعى عند الأزمات.
المصدر:
كل العرب