النقب ينزف: سياسة الهدم كأداة اقتلاع ممنهجة
بقلم: محمد دراوشه
في قلب صحراء النقب، حيث تمتزج الأرض بالهوية، تتعرض القرى العربية البدوية لهجمة شرسة من قبل الحكومة الإسرائيلية، التي لا تكتفي برفض الاعتراف بهذه القرى، بل تمضي قدمًا في سياسة الهدم والتشريد، وكأنها في سباق محموم لاقتلاع السكان الأصليين من أرضهم. آخر هذه المآسي وقعت شرقي الشقيب، حيث شهدت عائلة ابن سعيد مأساة جديدة بعد هدم منزل إضافي لها، ليرتفع عدد البيوت المهدومة خلال الأيام الأخيرة إلى 21 بيتًا. أطفال يقفون مذهولين، وذكريات تُسحق تحت عجلات الجرافات، في مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة بحق الإنسانية.
لكن هذه المأساة ليست استثناءً، بل جزء من سياسة ممنهجة تنتهجها الحكومة ضد العرب في النقب، تهدف إلى طردهم من أراضيهم ومصادرتها لصالح مشاريع استيطانية تخدم أجندات يمينية متطرفة. بدلًا من توفير تخطيط مدني عادل يسمح بالبناء المرخص، تُفضل الحكومة إبقاء القرى في حالة من العشوائية القسرية، لتستخدمها لاحقًا كذريعة للهدم، في مشهد انتقامي يُرضي القوى اليمينية ويُغذي خطابها العنصري.
التخطيط ممنوع، والهدم مسموح
في الوقت الذي تُمنح فيه المستوطنات اليهودية في النقب كل أدوات التخطيط والتطوير، يُحرم المواطن العربي من أبسط حقوقه في السكن. لا خرائط هيكلية، لا بنى تحتية، لا كهرباء، ولا ماء. وكأن الدولة تقول له: “ابقَ في الظلام، ثم سنهدم بيتك لأنك بنيته بلا ترخيص”. هذه السياسة ليست عشوائية، بل مدروسة بعناية لتغذية نهم القوى اليمينية التي ترى في العرب خطرًا ديموغرافيًا يجب التخلص منه. الهدم هنا ليس إجراءً إداريًا، بل فعل انتقامي، ورسالة سياسية تقول: “لن نعترف بوجودكم، ولن نسمح لكم بالاستقرار”.
المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها: صوت الأرض والناس
في مواجهة هذا الواقع القاتم، يبرز دور المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها، الذي لا يكتفي برصد الانتهاكات، بل يتواجد ميدانيًا إلى جانب العائلات المنكوبة، كما فعل برفقة النائب سمير ابن سعيد في الشقيب، دعمًا ومساندة في هذه اللحظات العصيبة. المجلس أكد رفضه القاطع لسياسة الهدم المتواصلة، مشددًا أن الهدم ليس حلًا، بل هو تعميق للمعاناة، وتشريد للأسر، وتعزيز للشعور بالظلم والإقصاء.
ويواصل المجلس نضاله القانوني والجماهيري من أجل وقف هذه السياسات العنصرية، وتحقيق الاعتراف بالقرى العربية البدوية، وضمان حق أهلها في السكن الكريم، والتخطيط الحضري العادل، والعيش بكرامة على أرضهم. هذا النضال لا يقتصر على المحاكم، بل يمتد إلى الشارع، إلى الإعلام، إلى كل منبر يمكن أن يُسمع فيه صوت من لا صوت لهم.
الهدم لن يُسكت الصوت
ما يجري في النقب ليس مجرد صراع على الأرض، بل معركة على الوجود والهوية. كل بيت يُهدم هو محاولة لطمس التاريخ، وكل جرافة تتحرك هي إعلان حرب على الحق. لكن الصوت البدوي في النقب لن يُسكت، والمجلس الإقليمي سيبقى في الصفوف الأمامية، مدافعًا عن الأرض والكرامة والحق في الحياة.
إن استمرار هذه السياسات لا يُهدد فقط مستقبل القرى البدوية، بل يُقوّض أسس العدالة والمساواة في الدولة. فهل يُعقل أن يُعامل المواطن العربي وكأنه دخيل في وطنه؟ وهل يُعقل أن يُحرم من حقه في السكن والتخطيط، بينما تُغدق الامتيازات على المستوطنات؟
النقب اليوم هو مرآة للسياسات العنصرية، لكنه أيضًا ساحة للنضال والصمود. وما دام هناك من يُهدم بيته، فسيبقى هناك من يرفع صوته، ومن يُدافع عن الحق، ومن يُقاوم الظلم.