كاتب المقال: السفير الفلسطيني في فيتنام، سعدي طميزي
تُحيي فيتنام في الثاني من أيلول/سبتمبر من هذا العام الذكرى الثمانين لإعلان استقلالها، في محطة لا تقتصر على بعدها التاريخي فحسب، بل تحمل أيضًا دلالات سياسية وحضارية عميقة. فهي مناسبة لاستحضار مسيرة شعب استطاع أن يحوّل بلدًا خرج من رحم الحروب والدمار إلى نموذج في التنمية والانفتاح والدبلوماسية المتوازنة، الأمر الذي يجعل من التجربة الفيتنامية مصدر إلهام للأمم الساعية لبناء مستقبل أفضل.
على مدى أربعين عامًا تقريبًا، كانت فيتنام ساحة لصراعات استعمارية وحروب دامية تركت ندوبًا غائرة في جسدها. من الحرب ضد الاستعمار الفرنسي إلى الحرب الأمريكية التي عُرفت عالميًا باسم “حرب فيتنام”، لم تترك تلك العقود سوى صور الدمار، ملايين الضحايا، وبنية تحتية متهالكة. الفقر والجوع كانا سمة المرحلة، والاقتصاد أنهكته العزلة الدولية والعقوبات. ومع ذلك، لم تستسلم هانوي، بل حملت في جيناتها السياسية إرادة مقاومة وصمود جعلتها قادرة على الانتقال من طور التحدي إلى طور البناء.
التحول الجذري جاء عام 1986 مع إطلاق سياسة “Đổi Mới” أو “التجديد”، التي مثلت نقطة انعطاف كبرى في تاريخ البلاد. فقد جرى الانتقال تدريجيًا من الاقتصاد الموجّه والمركزي إلى اقتصاد سوق منفتح يقوم على المبادرة الفردية، جذب الاستثمارات الأجنبية، وتحرير التجارة. خلال سنوات قليلة، بدأت ثمار الإصلاح تظهر بوضوح: معدلات نمو تجاوزت 6–7% سنويًا، تدفق رؤوس الأموال، وتحوّل فيتنام إلى مركز صناعي تنافسي في مجالات النسيج، الإلكترونيات، وتكنولوجيا المعلومات. واليوم، تصنَّف فيتنام كواحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في آسيا، وأحد أبرز مقاصد الاستثمار العالمي.
لكن النجاح الفيتنامي لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل ارتبط بمشروع إصلاحي شامل هدفه تعزيز الحوكمة الرشيدة. فقد أعادت الدولة هيكلة مؤسساتها من خلال دمج الوزارات والهيئات، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وإطلاق برامج التحول الرقمي في الخدمات الحكومية. كما تبنّت سياسات صارمة لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية، الأمر الذي جعلها محط اهتمام دول عديدة تبحث عن معادلة صعبة: كيف يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية مع الحفاظ على نزاهة الإدارة العامة؟
في الموازاة، أولت هانوي أهمية قصوى للجوانب الاجتماعية. فبرامج التعليم والصحة شهدت تطورًا ملحوظًا، ومعدلات الفقر انخفضت بشكل كبير خلال العقدين الماضيين. واليوم، باتت فيتنام تُضرب بها الأمثال في قدرتها على تحقيق تنمية شاملة تجمع بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
أما على الصعيد الخارجي، فقد رسمت فيتنام ملامح دبلوماسية براغماتية تقوم على مبدأ “عدم الانحياز إلى المحاور” وتنويع الشراكات. فهي تحافظ على علاقات تاريخية مع الصين وروسيا، وتطوّر تعاونًا استراتيجيًا مع الولايات المتحدة، وتبني جسورًا متينة مع الاتحاد الأوروبي، اليابان، والهند. هذه السياسة المرنة أُطلق عليها “دبلوماسية البامبو”، في إشارة إلى نبات البامبو الذي يجمع بين الصلابة والجذور العميقة من جهة، والقدرة على الانحناء مع الرياح دون أن ينكسر من جهة أخرى. وبفضل هذا النهج، استطاعت فيتنام أن تكون لاعبًا متوازنًا يحظى باحترام مختلف القوى العالمية.
ولم تقف السياسة الخارجية الفيتنامية عند حدود بناء الشراكات، بل امتدت إلى المشاركة الفعلية في عمليات حفظ السلام الدولية منذ عام 2014. فقد أرسلت هانوي ضباطًا وأطباء إلى مناطق نزاع في أفريقيا مثل جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. هذه المشاركة، وإن كانت رمزية من حيث العدد، إلا أنها عكست تطورًا في دور فيتنام كفاعل مسؤول يسهم في تعزيز السلم والأمن الدوليين.
في خضم هذا الحضور الدولي المتنامي، لم تنسَ فيتنام جذور تضامنها مع الشعوب المناضلة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني. فمنذ ستينيات القرن الماضي، تبادلت الثورتان الفيتنامية والفلسطينية الدعم في مواجهة الاستعمار والاحتلال. وكانت هانوي من أوائل الدول التي اعترفت بإعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، وما زالت حتى اليوم شريكًا وفيًا وداعمًا ثابتًا لحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة. هذا البعد الإنساني في السياسة الفيتنامية يعكس أصالة تجربتها وإيمانها بأن الحرية لا تتجزأ.
ثمانون عامًا بعد الاستقلال، لم تعد فيتنام مجرد قصة نجاح اقتصادي، بل غدت شهادة حيّة على قدرة الشعوب على تحويل المعاناة إلى قوة، والهزيمة إلى فرصة للنهوض. إنها مثال على أن الاستقلال لا يكتمل فقط بتحرير الأرض، بل يتطلب الجمع بين الذاكرة التاريخية والرؤية المستقبلية. واليوم، تقف فيتنام أيقونة عالمية للصمود والإصلاح والانفتاح، تلهم غيرها من الأمم بأن الإرادة والنهج الواقعي هما السبيل لبناء مستقبل مزدهر وسلمي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com