في تموز 1995، اهتز ضمير العالم أمام مشهد مذبحة البوسنة التي ارتكبها جيش جمهورية صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش في مدينة سربرنيتسا، وبمشاركة وحدات شبه عسكرية مثل جماعة "العقارب" الصربية، حين ارتُكبت جريمة مروعة بحق أكثر من 8000 من المسلمين البوشناق، معظمهم من الرجال والفتيان، في منطقة أعلنتها الأمم المتحدة "آمنة"، لكنها فشلت في حمايتهم. كانت تلك اللحظة, عار الأمم المتحدة, نقطة تحول دفعت المجتمع الدولي إلى التحرك بعد سنوات من التردد والخذلان.
اليوم، غزة تقف عند مفترق مشابه لما شهدته سربرنيتسا قبل ثلاثة عقود. الحرب التي اندلعت في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، والتي اعتُبرت في أسابيعها الأولى "ردًا أمنيًا"، تحولت تدريجيًا إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة لأهداف سياسية تخدم بنيامين نتنياهو وحكومته. وبدلاً من الاكتفاء بالرد العسكري، اتخذت العمليات منحى أكثر قسوة، حيث باتت أدوات مثل الحصار، تقليص الإمدادات، وعرقلة المساعدات الإنسانية تُستخدم بشكل ممنهج، ما أدى إلى تفشي المجاعة في القطاع.
هذه المجاعة لا يمكن اعتبارها نتيجة عرضية أو خطأ في التقدير، بل هي انعكاس لسياسات مدروسة، اتُخذت عن وعي من قبل أطراف متعددة، وسُمح لها بالاستمرار من قبل المجتمع الدولي. التغاضي عن هذه السياسات، سواء بالصمت أو بالتبرير، ساهم في تعميق الكارثة، وطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية حول حدود المسؤولية الدولية في حماية المدنيين.
إن استمرار هذا الوضع لا يهدد فقط حياة الفلسطينيين، بل يضع أيضًا مستقبل المنطقة بأكملها في خطر، ويقوّض القيم الإنسانية التي يدّعي العالم الدفاع عنها. اللحظة الراهنة تتطلب أكثر من الإدانة؛ إنها تستدعي تحركًا عاجلًا لوقف الانهيار، واستعادة الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. ما يحدث في غزة لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد أيضًا إسرائيل من حيث مكانتها الأخلاقية ومستقبلها السياسي وأمنها الداخلي. كما يضع اليهود حول العالم أمام مأزق أخلاقي عميق، بين القيم التي يؤمنون بها والواقع الذي يُرتكب باسمهم.
ولا شك أن طرفي النزاع، حماس والحكومة الإسرائيلية، يتحملان مسؤولية مباشرة عن استمرار التصعيد. فكلاهما يتبنى سياسات تضع الاعتبارات الأمنية والعسكرية فوق حياة المدنيين، وتغذي مشاعر الغضب والانقسام. هذه السياسات، رغم اختلافها، تساهم في إدامة دورة من العنف المتبادل، وتُعيق أي فرصة حقيقية لوقف الحرب وتحقيق العدالة أو السلام.
المسؤولية لا تنتهي عند حدود غزة أو تل أبيب. المجتمع الدولي، الذي طالما تغاضى عن الانتهاكات، مطالب اليوم بكسر هذه الدورة. هناك مؤشرات على تحول محتمل: ألمانيا أوقفت بعض مبيعات الأسلحة، وفرنسا تقترب من الاعتراف بدولة فلسطين، وهناك أصوات متزايدة داخل إسرائيل تعارض الحرب. هذه خطوات صغيرة، لكنها تحمل بذور التغيير.
ما يحدث اليوم في غزة ليس استثناءً في التاريخ الحديث، بل يعيد إلى الأذهان نماذج مأساوية مشابهة:
• في حصار سراييفو (1992–1996)، عانت العاصمة البوسنية من أطول حصار في التاريخ الحديث، حيث قُطعت الإمدادات وقُصفت الأحياء المدنية يوميًا، في مشهد يعكس عزلة غزة اليوم.
• خلال حرب استقلال بنغلاديش (1971)، استخدمت المجاعة والتهجير كأدوات حرب، وسط صمت دولي مشابه.
• في دارفور، السودان (2003–2008)، شهد العالم تطهيرًا عرقيًا ممنهجًا، حيث استُخدمت المجاعة والاغتصاب الجماعي كوسائل لإخضاع السكان.
• أما في حلب (2016)، فقد فرض النظام السوري حصارًا خانقًا على المدنيين، مع قصف المستشفيات والمدارس، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن استهداف البنية التحتية في غزة.
هذه الأحداث ليست مجرد ذكريات، بل تحذيرات متكررة من أن التغاضي الدولي عن الكوارث الإنسانية يفتح الباب لمزيد من الانهيار الأخلاقي والسياسي.
لحظة الحقيقة في سربرنيتسا لم تكن فقط عن المجزرة، بل عن إدراك نقطة التحول. واليوم، غزة تنادي بنداء مشابه: أوقفوا المجاعة، افتحوا الممرات الإنسانية، وابحثوا عن أفق سياسي حقيقي. التاريخ لن يرحم من اكتفى بالإدانة دون فعل. غزة قد تصبح وصمة عار جديدة على ضمير العالم والأمم المتحدة، لحظة أخرى يتردد فيها مصطلح "لن يتكرر ذلك أبدًا" بلا معنى. لا يزال هناك وقت لإنقاذ الأرواح، وحماية مستقبل شعبين، والحفاظ على فرص السلام.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com