في زمن تتفكك فيه القيم الإنسانية أمام منطق الحرب، تتقاطع حكايتان طبيتان من طرفي النزاع. الأولى لامرأة فلسطينية، جرّاحة وأم، فقدت تسعة من أطفالها في غارة بينما كانت تؤدي عملها في إنقاذ الآخرين. الثانية لرجل إسرائيلي، طبيب ومسعف، أعلن على العلن رغبته في "المشاركة في التصفيات" في غزة باسم "الطب الوقائي".
المفارقة هنا ليست فقط بين الضحية والمعتدي، بل بين نموذجين لما تعنيه المهنة الطبية في زمن الحرب: أداة للحياة، أو ذريعة للقتل.
السيرة الطبية: د. آلاء النجار – الجراحة التي لم تودّع أبناءها
آلاء النجار، طبيبة جراحة في مستشفى ناصر بخانيونس، جنوب قطاع غزة. أمّ لعشرة أطفال، كانت تؤدي نوبتها في غرفة العمليات يوم السبت 24 أيار/مايو، حين سقط منزلها في غارة جوية إسرائيلية. نتيجة القصف، ارتقى تسعة من أطفالها، وأصيب الزوج والابن العاشر بجراح بالغة.
رواية وكيل وزارة الصحة في غزة، د. يوسف أبو الريش، الذي التقى بها لحظات بعد استهداف منزلها، تؤكد أنها بقيت في المستشفى تبحث عن طفلها الناجي، بصمت تام وعيون غارقة في الذهول، في لحظة تصفّح فيها الحزن ولم تنطق إلا بالتسبيح. لم تطلب إذنًا للخروج، لم تبكِ أمام الكاميرات، ولم تتوقف عن العمل.
الغارة التي استهدفت منزلها تُعد واحدة من عشرات الهجمات التي طالت منازل مدنيين خلال الأيام الأخيرة، والتي لم يعلن الجيش الإسرائيلي حتى اللحظة أي مسؤولية واضحة بشأنها. اكتفى بالإشارة إلى "تحقيق داخلي"، لم يُنشر منه شيء بعد، رغم الوعود بذلك.
السيرة المهنية: د. عموس سبو – الطبيب الذي أراد القتل باسم الطب
في الطرف الآخر من المعادلة، نشر د. عموس سبو، طبيب إسرائيلي يعمل في صندوق المرضى "مكابي"، منشورًا على منصة X قال فيه بالحرف: "أمس، صفّى رفاقي عشرات المخربين. طلبت أن أشارك في التصفيات، كطبيب، في إطار الطب الوقائي. أحد المسعفين صححني وقال إنها ضمن الصحة العامة. هو محق. نحن نقضي على صراصير وحشرات مقززة".
المنشور أثار موجة من الغضب داخل الأوساط الطبية الإسرائيلية، ما دفع نقابة الأطباء إلى إصدار بيان أدانت فيه ما وصفتها بـ"دعوة غير أخلاقية ومنافية للميثاق الطبي"، مشيرة إلى أن مهمة الطبيب في كل الظروف هي إنقاذ الأرواح لا إنهاؤها. مع ذلك، لم تُتخذ أي إجراءات عملية بحقه حتى الآن، باستثناء استدعائه لجلسة "انضباطية داخلية" مع قيادة فرقته العسكرية.
الجيش الإسرائيلي علّق بإيجاز، مؤكدًا حذف المنشور وأنه "سيتم استخلاص الدروس". لم يعلن عن توقيفه عن العمل أو إحالته إلى لجنة سلوك مهني، رغم استخدامه مصطلحات تمس بكرامة الإنسان وتشرعن العنف بلغة طبية.
الطب في زمن الحرب: المهنة بين منقذة وقاتلة
المفارقة بين الحالتين ليست فقط في مستوى الألم أو الانهيار، بل في وظيفة الطبيب ذاته. د. النجار وقفت على طاولة العمليات تسابق الوقت لإنقاذ جريح، بينما يُقصف منزلها بمن فيه. د. سبو يستخدم صفته الطبية لتبرير القتل، ويتحدث عن "الصحة العامة" وكأنها برنامج إبادة.
الأخطر أن هذا التباين يجري في صمت شبه كامل من المؤسسات الدولية. فلا هيئات حقوقية طالبت بفتح تحقيق في استهداف منزل طبيبة تعمل بمؤسسة مدنية، ولا أصوات مهنية من جانب نقابة الأطباء العالمية (WMA) نددت بمنشور زميلها الإسرائيلي.
في المقابل، يبدو أن المجتمعات المهنية في كلا الجانبين تواجه اختبارات حقيقية حول معنى أخلاقيات المهنة وحدود الصمت.
ما بين من ينقذ ومن يطلب التصويب
في الصراع المتواصل على غزة، تُطوى مشاهد كثيرة تحت أخبار القصف وردود الأفعال. لكن قصتي آلاء النجار وعموس سبو تكشفان بعدًا آخر للحرب: كيف يمكن أن تنهار المهنة عندما تُسخّر لخدمة أجندات، وكيف يبقى الصبر والكرامة في مشهد طبيبة فقدت كل شيء وبقيت واقفة.
ربما لا يحمل هذا التقرير إجابة، لكنه يطرح سؤالًا مؤلمًا بصيغة إنسانية: من الذي يمثل الطب فعلاً؟ ومن الذي يستحق أن يُسمى طبيبًا؟