آخر الأخبار

الشعب الأبيض المختار.. كيف اخترقت النازية قلب السياسة الأميركية؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

كاد نهار الأحد 29 يونيو/حزيران (2025) ينتصف، عندما تلقت السلطات في مدينة كور دالين بولاية إيداهو الأميركية مكالمة هاتفية، تبلغ عن حريق على المنحدر الغربي لجبل كانفيلد على مقربة من المدينة. بدا الأمر روتينيًّا في البداية، مجرد مكالمة تقليدية يستجيب لها رجال الإطفاء، لكن ما حدث بعد ذلك كان بعيدًا كل البعد عن الروتين أو المعتاد.

فبينما اقتربت كتيبة الإطفاء من موقع الحادث لم يكن لديهم الكثير من الوقت لمعرفة أنهم يسيرون إلى كمين محكم. وبمجرد وصولهم، تتابعت الطلقات النارية من بين الأشجار، ليمزق صوتها المدوي الصمت المطبق عند سفح الجبل.

اقرأ أيضا

list of 3 items
* list 1 of 3 قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهر
* list 2 of 3 هل ينقلب المسيحيون الإنجيليون في أميركا ضد إسرائيل؟
* list 3 of 3 نايف بن نهار يكتب: هل تحتاج أميركا إلى استقلال ثان؟ end of list

وفي غضون ثوان، سقط رجلا إطفاء قتيلين هما فرانك هاروود رئيس كتيبة الإطفاء والإنقاذ في مقاطعة كوتيناي، وجون موريسون، رئيس كتيبة الإطفاء في كور دالين وأصيب رجل إطفاء ثالث بجروح. في الساعات التالية، قام ما يقرب من 300 من شرطة الولاية، وعملاء مكتب التحقيقات الفدرالي، والفرق الفدرالية المسلحة بمروحيتين تحملان قناصة، بتمشيط سفح الجبل بحثًا عن مطلق النار.

أخيرا، عثر الضباط على المشتبه فيه على قمة تلة قريبة. لكن ويس رولي، البالغ من العمر 20 عامًا، كان قد فارق الحياة، وجسده لا يزال دافئًا، بصحبة بندقية صيد إلى جانبه. تبين لاحقا أنه قام بإطلاق النار على نفسه حين حاصرته قوات إنفاذ القانون. لكن رغم كل هذه التفاصيل المثيرة، فإن ما جعل هذا الهجوم مُرعبًا فعلا هو توقيته، حيث صادف ذلك اليوم الذكرى الرابعة والعشرين لإحدى اللحظات ذات الرمزية العالية في المواجهة بين الحكومة الأميركية والمنظمات "النازية" في البلاد.

ففي نفس اليوم من عام 2001، وعلى بعد أميال فقط من موقع إطلاق النار، نفذت قوات إنفاذ القانون ورجال الإطفاء تدريبا تضمن إشعال النار في غرف المجمع السابق لمنظمة الأمم الآرية أو "آريان نيشنز" (Aryan nations) مما أسفر عن تدمير رمزي للمقر الفعلي لإحدى أشهر منظمات النازية الجديدة في أميركا. كان المجمع بمثابة المركز الأيديولوجي والعملي للمنظمة التي قادها ريتشادر بتلر، الزعيم الديني المسيحي الأميركي المناصر لتفوق العرق الأبيض لعقود وألهمت القوميين البيض والنازيين الجدد من بعده زمنًا طويلًا.

إعلان

ورغم أن التحقيقات لم تثبت أي صلة حاسمة بين الواقعتين فإن مفارقة التوقيت أثارت انتباه الكثيرين. فبعد ربع قرن، ها هو العنف يندلع مجددا في نفس المنطقة الجغرافية، حاملًا البصمات الأيديولوجية للعنصرية البيضاء للنازيين الجدد. لقد كشفت الشهادات أن دفاتر ويس رولي منذ سنوات مراهقته كانت مليئة برسومات للصلبان المعقوفة (رمز النازية الأشهر) وتحدث المقربون منه عن هوسه الزائد بالأسلحة.

وسواء كان اختيار التاريخ مجرد مصادفة أم رمزية مدروسة، فإن هجوم رولي مثّل شيئًا أكبر بكثير من مجرد عمل فرد مضطرب، لقد عكس الوجه العنيف لحركة نازية جديدة متجددة ومتشابكة تسعى لترسيخ نفسها اجتماعيا وتكتسب نفوذا سياسيا متزايدا في أوساط اليمين الأميركي.

ففي جميع أنحاء الولايات المتحدة، لم تعد الأيديولوجية النازية مجرد ماض أو ذكرى محصورة في كتب التاريخ، بل أصبحت أيديولوجية حية مترابطة، وشبه منظمة، والأهم أنها تزداد عنفا يوما بعد يوم. يعمل هؤلاء النازيون الجدد من خلال شبكات لامركزية يصعب تفكيكها، ويكيفون رسائلهم مع المظالم السياسية المزعومة للأميركيين البيض، وقد تمكنوا من ترسيخ أنفسهم على أنهم عنصر أساسي في صفوف أقصى اليمين الأميركي، ويكتسبون قوة متزايدة بمرور الوقت.

مصدر الصورة أعضاء من فرسان لواء المتمردين وفرسان النظام النوردي، وهما مجموعتان تدعيان الانتماء إلى كو كلوكس كلان، يحملون مشاعلهم المضاءة خلال مراسم إضاءة الصليب في فرجينيا، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2014 (رويترز)

صعود وهبوط "الأمم الآرية"

تعود جذور منظمة "الأمم الآرية" إلى حركة "الهوية المسيحية" التي لاقت انتشارا واسعا في سبعينيات القرن الماضي. ويعتقد أنصار الهوية المسيحية أن الآريين البيض هم "شعب الله المختار" وليس اليهود، وأنهم بنو إسرائيل الحقيقيون المذكورون في الكتاب المقدس.

كما يعتقدون أن الأفارقة يقعون في مرتبة دون البشر، وأن اليهود ينحدرون من نسل الشيطان، ويزعمون أن الأميركيين السود، يقودون ثورة شيوعية بدعم من اليهود، وهي أفكار تجمع بين أيديولوجيا التفوق العرقي وبين نظريات المؤامرة اليمينية الأكثر تطرفا.

وعلى خلاف جماعات التفوق العرقي ذات الطابع العلماني، منح هذا البعد اللاهوتي الأمم الآرية ما يشبه "شرعية دينية" جذبت ذلك النوع من الأتباع المتحمسين الذين يبحثون عن مبرر أخلاقي للتفوق العرقي.

وقد تبلورت أفكار المجموعة بداية على يد ويسلي سويفت، أحد دعاة ما يعرف بـ"الأنجلوإسرائيلية" التي تتبنى اعتقادا زائفا -تاريخيا وأنثروبولوجيا- حول كون الشعوب الغربية البيضاء في بريطانيا وبالتبعية في الولايات المتحدة تنحدر وراثيًّا وعرقيًّا ولغويًّا من سلالة القبائل العشر المفقودة في إسرائيل القديمة.

وفق هذا المعتقد، أسس سويفت لاحقًا كنيسته الخاصة في كاليفورنيا في منتصف أربعينيات القرن العشرين، وُعرفت وقتها باسم "الجماعة المسيحية الأنجلوساكسونية" (Anglo-Saxon Christian Congregation).

في مطلع الستينيات، تعرف ويسلي سويفت رجلًا يدعى ريتشارد بتلر وهو من المعجبين بأدولف هتلر وجوزيف مكارثي، ونجح في جذبه إلى أفكار الهوية المسيحية. عندما توفي سويفت عام 1971 سيطر بتلر على كنيسته، وقام بنقلها من كاليفورنيا إلى أيداهو عام 1973 مغيرا اسمهما إلى "كنيسة يسوع المسيح المسيحية" (Church of Jesus Christ–Christian). وبقدوم عام 1978، أسس بتلر منظمة الأمم الآرية لتعمل جناحا سياسيا شبه عسكري للكنيسة بمزيج أيديولوجي من الهوية المسيحية والأيديولوجيا النازية.

إعلان

منذ ذلك الوقت، كان مقر منظمة آريان نيشنز يقع في مجمع مساحته 20 فدانا على بُعد أقل من ميلين شمال هايدن، إيداهو. أطلق بتلر على ذلك المجمع مجازا "المقر الدولي للعرق الأبيض" حيث بدأ في استضافة مؤتمرات سنوية استقطبت أعضاءً من مختلف الجماعات العنصرية البيضاء، ومنهم الحليقو الرؤوس وجماعة كو كلوكس كلان المتطرفة، حتى إن "الأمم الآرية" قدمت دورات في حرب العصابات والإرهاب الحضري لهؤلاء النشطاء.

وبحلول عام 1989 بدأ بتلر ومنظمته في عقد ما يُعرف بـ"مهرجان الشباب الآري" وهو حدث سنوي يقام في عطلة نهاية الأسبوع السابقة لعيد ميلاد أدولف هتلر الموافق 20 أبريل/نيسان.

لقد تصوّر بتلر، وهو مهندس سابق في شركة لوكهيد الشهيرة، "الأمم الآرية" على أنها أكثر من مجرد جماعة عرقية دينية عادية، بل إنها ترقى لمنزلة طليعة سياسية وروحية لحركة انفصالية بيضاء تبتغي تأسيس دولة للآريين البيض وإلهام تحركات مماثلة عابرة للحدود.

لقد أصبح مجمع بتلر في هايدن ليك وجهة للمتحمسين من دعاة تفوق العرق الأبيض في جميع أنحاء أميركا الشمالية، مستضيفا مؤتمرات سنوية استقطبت المئات، وموفرا تدريبًا على الأسلحة وانضباطًا عسكريًّا صارما. كما عمل المجمع كمركز للتجنيد من خلال تأسيس فيلق شبابي خاص مهمته غرس أيديولوجية الحركة بين صفوف المراهقين، بهدف ضمان استمراريتها عبر الأجيال.

كان العنف ركنا ركينا في الأيديولوجيا "الثورية" للأمم الآرية. تظهر أبرز تجليات هذه النزعة العنيفة من خلال خلية فرعية عُرفت باسم "النظام" (Order) أسسها روبرت جاي ماثيوز "بوب ماثيوز"، أحد أكثر أعضاء الأمم الآرية التزاما عام 1983. استلهم ماثيوز رؤيته المتطرفة من رواية "مذكرات تيرنر" للكاتب ويليام لوثر بيرس التي نشرها عام 1978 تحت اسم مستعار هو أندرو ماكدونالد، ودعا خلالها إلى حرب عرقية عنيفة وكارثية للإطاحة بالحكومة الأميركية وإبادة اليهود وغير البيض.

اعتقد نشطاء حركة "النظام"، المعروفة أيضًا باسم "المقاومة الأميركية البيضاء" أو "برودر شفايغن" (الإخوان الصامتون)، أن الحكومة الفدرالية الأميركية تخضع لسيطرة اليهود وسعوا إلى الإطاحة بها لإنشاء دولة عرقية بيضاء.

موّلت المنظمة أنشطتها من خلال عمليات سطو مسلحة، بما في ذلك سرقة 3.6 ملايين دولار أميركي من سيارة مصفحة في كاليفورنيا عام 1984. لكن عنف المنظمة بلغ أوجه حين أقدم أحد نشطائها على اغتيال مقدّم البرامج الحوارية الإذاعية آلان بيرغ، أحد أبرز الشخصيات الإعلامية اليهودية وقتها، في حادثة صُنفت ضمن أشهر جرائم القتل بدافع الكراهية في ذلك العقد.

مثل "الإخوان الصامتون" نذير تحول أيديولوجي حاسم، فبدلًا من مجرد الدعوة إلى الفصل العنصري والسعي إلى اكتساب السلطة السياسية عبر الوسائل الانتخابية، تبنت الجماعة علنًا الإرهاب والعنف تكتيكات مشروعة لنضال العنصريين البيض. كان أعضاؤها على استعداد للتضحية بحياتهم، والانخراط في أعمال إجرامية متواصلة، وتنفيذ عمليات اغتيال مدروسة فقط لإرسال حقيقة أن العمل الثوري العنيف (لإعلاء أفكار الهوية المسيحية والتفوق الأبيض) ليس مقبولًا فحسب، بل يرقى إلى كونه ضرورة أخلاقية.

غير أن المجموعة سرعان ما تداعت تحت وطأة الضربات الأمنية التي أسفرت عن سجن 25 من أبرز أعضائها عام 1985. ومع وجود العديد من أعضائها السابقين في السجن، والحصار الأمني المتزايد للجناح العنيف، بدأت الأمم الآرية تفقد أعضاءها وتعاني صعوبات في التجنيد، مما تسبب في انخفاض أفرعها إلى ثلاثة فقط في الولايات المتحدة قبل نهاية الثمانينيات. لكن عقد التسعينيات شهد طفرة جديدة في نشاط المجموعة التي كانت تعمل بنشاط في 27 ولاية أميركية بحلول عام 1996.

إعلان

لم تدم تلك الطفرة طويلا، فقبل حلول نهاية العقد واجهت منظمة "الأمم الآرية" تحديا وجوديا جديدا هذه المرة من خلال الدعاوى المدنية. ففي الأول من يوليو/تموز 1998، اعتدى حراس الأمن في مجمع هايدن بوحشية على سيدة تدعى فيكتوريا كينان وابنها جيسون عندما توقفا لفترة وجيزة أمام المجمع، وهو اعتداء تسبب في دعوى قضائية انتهت بسجن اثنين من الحراس مع تعويضات بقيمة 6.3 ملايين دولار، دمرت موارد المنظمة المالية فضلًا عن أضرار السمعة التي شلت قدرتها على التجنيد والتوسع.

على إثر تلك الضربة، فقدت "الأمم الآرية" نفوذها المؤسسي تدريجيًّا، ودخل قادتها في صراعات على السلطة انتهت بتنحي ريتشارد بتلر، الذي تجاوز الثمانين من عمره آنذاك، عن القيادة، وفشل القادة اللاحقون في جمع شتات المنظمة المتشرذمة. وكان التدمير الرمزي لمجمع هايدن في عام 2001 بمثابة علامة فارقة على نهاية حقبة الأمم الآرية من الناحية التنظيمية، ثم جاءت وفاة بتلر عام 2003 بمثابة شهادة الوفاة الرسمية للمنظمة.

وعلى الرغم من أن العديد من المجموعات اللاحقة استمرت في استخدام اسم "الأمم الآرية"، فإن أيًّا منها لم يكتسب النفوذ أو القوة التنظيمية أو حتى نفس عدد الأعضاء الذين انتموا إلى المنظمة الأصلية.

جيل "المسرعين"

في أعقاب الانهيار القانوني والمؤسسي لـ"الأمم الآرية"، شهدت النازية الجديدة المستندة إلى الهوية المسيحية تحولا هيكليا ملحوظا، وبدلًا من محاولة إعادة بناء منظمات هرمية مركزية، اعتمدت بشكل متزايد نماذج لا مركزية قائمة على الشبكات. وقد نتج هذا التحول جزئيًّا عن ضغوط جهات إنفاذ القانون، حيث طورت الوكالات الفدرالية قدرات متطورة لاختراق وتفكيك المنظمات الهرمية من خلال تحديد قادتها وأبرز أعضائها وملاحقتهم ميدانيا وقضائيا.

شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهور العديد من الجماعات المنشقة التي تدّعي انتماءها لـ"الأمم الآرية"، ومن هذه الجماعات نادي الدراجات المعروف بـ"آريان نيشنز ساديستيك سولز إم سي" الذي تأسس عام 2010 على يد دينيس مايكل ماكجيفن، العضو السابق في جماعة كو كلوكس كلان، الذي قضى سبع سنوات في السجن بتهمة حيازة أسلحة، والذي قدم ناديه بوصفه الجناح المسلح الجديد لمنظمة الأمم الآرية.

ولكن على عكس المنظمة الأم، لم تتجاوز مكانة نادي ماكجيفن جماعة كراهية خارجة عن القانون، حيث تكون من مزيج غير متجانس أيديولوجيا يجمعه الإيمان المشترك بتفوق العرق الآري دون حضور صلب للهوية المسيحية، مما جعله أقرب إلى جماعات النازية الجديدة العلمانية.

المفارقة أن انهيار الأطر التنظيمية للنازيين الجدد، من المتدينين والعلمانيين على السواء، أفرز بمرور الوقت تطورا واضحا في خطوطهم الأيديولوجية. لقد بدأت أيديولوجية الأمم الآرية الأصلية، المتجذرة في لاهوت الهوية المسيحية والسعي إلى دولة عرقية آرية منفصلة كما أراد سويفت وبتلر، تتطور نحو أطر "تسريعية" تعد تحولا جذريًّا عن الأيديولوجية الانفصالية.

وبدلًا من السعي إلى دولة عرقية منفصلة جغرافيا عن مناطق السكان غير البيض، تسعى "التسريعية" (ِAccelerationism) إلى تمكين البيض من السلطة السياسية والاجتماعية من خلال تسريع الانهيار المجتمعي عبر العنف والفوضى السياسية.

يرفض دعاة "التسريعية" الإستراتيجيات التدريجية للأجيال السابقة، وتبنوا بدلًا من ذلك الاعتقاد بوجوب استخدام العنف لزعزعة استقرار المجتمع عمدا، وتهيئة الظروف لحرب عرقية أو انهيار حضاري يُمهد الطريق لتفوق العرق الأبيض. تجد هذه الأفكار جذورها عند جيمس نولان ماسون الذي كتب "المانيفستو" الأول للتسريعية في عدة رسائل جمعت لاحقا في كتاب باسم "الحصار" (Siege). لقد شعر ماسون بخيبة أمل متزايدة بسبب تعويل الحركات النازية -غير المجدي من وجهة نظره- على الحراك الجماهيري وتحفظها في استخدام العنف، داعيا إلى ثورة بيضاء من خلال العنف والإرهاب.

بعد الحكم بالسجن عليه في تسعينيات القرن الماضي، اندثرت أفكار ماسون نسبيا، لكن النازيين الجدد أعادوا اكتشاف "الحصار" واعتنقوه ضمن أدبيات النازية الجديدة التي أصبحت أكثر "إرهابا". يؤمن نازيو أميركا اليوم بأنه لا يمكن إصلاح المجتمع أو تحويله سلميا؛ بل يجب تدميره بعنف، وعلى الأفراد الانخراط في "إرهاب ذاتي التوجيه" لتسريع هذه العملية. مثّل هذا قطيعة جوهرية مع الانضباط التنظيمي والتسلسل القيادي لعصر الأمم الآرية لصالح نوع من اللامركزية يتضمن قيام الأفراد أو الخلايا الصغيرة بممارسة العنف وفقًا لتقديرهم الخاص.

مصدر الصورة صورة نُشرت في 24 أبريل/نيسان 2016 تُظهر أعضاء من جماعة كو كلوكس كلان، تشارك في حرق صليب معقوف في جورجيا، الولايات المتحدة الأميركية (الأوروبية)

لكن ليس كل التسريعيين يدعون صراحة إلى الفوضى والعنف الموسعين بشكل فوري، ولا يعكس ذلك تراجعا أيديولوجيا بقدر ما يظهر قدرا من المواءمة السياسية. ومن تلك المجموعات التي اكتسبت صيتا خلال السنوات الأخيرة "شبكة الحرية الآرية" (Aryan freedom network) المعروفة اختصارا بـ"AFN" بقيادة هنري ستاوت وديزي بار. يشرف الزوجان على المنظمة -التي يرجح أنها تضم ما بين 1000 و1500 عضو وتمتلك 23 فرعا في الولايات المتحدة- من منزل في تكساس ويزعمان أن مجموعتهما تعارض استخدام العنف، رغم أنها تدعو علنا إلى الاستعداد لـ"حرب مقدسة عرقية"، وتسعى لتجنيد المتطرفين في الجماعات المناظرة.

إعلان

تعد شبكة الحرية الآرية الوريث الأكثر شبها بالأمم الآرية سواء من حيث تبنيها المعلن لأفكار الهوية المسيحية، وإن كانت أقل وضوحا ونقاء من منظمة بتلر، أو من حيث حرصها على إقامة نوع من الترتيب التنظيمي والتأكيد على الالتزام المعلن بالقانون. لكن ستاوت لا يكاد يخفي النظرة التسريعية الكامنة وراء منظمته، مؤكدا في تصريحات لرويترز أنه عند اللحظة المناسبة "سيحل العنف كل شيء"، تلك هي لحظة الفوضى التي ينتظرها أو يسعى إليها التسريعيون على اختلاف مشاربهم.

ربما يفسر ذلك لماذا تعد حيازة الأسلحة والتدريبات شبه العسكرية محاور أساسية في أنشطة شبكة الحرية الآرية وجهودها لتجنيد المزيد من الأعضاء. على سبيل المثال، ووفقًا لإفادة مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) قام أحد الأعضاء السابقين في الشبكة، ويدعى أندرو مونسينغر، بتصنيع وتداول بنادق "AR-15" نصف آلية وأسلحة أخرى، مستخدمًا ورشة لتصنيع قطع الغيار في مكان سري. وجاء في الإفادة أنه تفاخر أمام أعضاء آخرين في الشبكة بتخزين الذخيرة وتصنيع العبوات الناسفة، وادعى أنه صوّب بندقية صيد على مدعٍ عام أثناء نومه.

ألقي القبض على مونسينغر، الملقب بـ"ثور"، العام الماضي في مينيابوليس بولاية مينيسوتا بتهم فدرالية تتعلق بحيازة أسلحة نارية بشكل غير قانوني، وقال مكتب التحقيقات الفدرالي إنه حضر ما لا يقل عن خمس فعاليات لشبكة الحرية الآرية "AFN" خلال عام واحد. وذكرت الإفادة الفدرالية أن "AFN" هي "منظمة جامعة لمنظمات أخرى من دعاة تفوق العرق الأبيض".

وتقدم الوثائق المتعلقة بقضية مونسينغر، لمحة عن عمليات المجموعة وتشمل التدريب على الأسلحة النارية في عدة ولايات، واتصالات مشفرة تركز على حيازة الأسلحة، وفعالية تجنيد في حانة على ضفاف بحيرة في أوهايو، وأعضاءً جددًا يبنون صلبانًا معقوفة خشبية ضمن طقوس انضمامهم الأولى بحسب ما أوردته رويترز.

هذه الجرأة التي تبديها المنظمات النازية الجديدة في التعبير عن نفسها، اجتماعيا وسياسيا، ترمز إلى تحول كبير في بيئة العمل الخاصة بها، وتنذر بأن ما كان متطرفًا في الماضي يندمج الآن بسهولة أكبر في اليمين الأميركي الأوسع، ليس لأن تلك الجماعات أصبحت أقل تطرفا، ولكن لأن البيئة المحيطة هي التي أصبحت أكثر تسامحا مع الأفكار المتطرفة.

يتزامن ذلك مع تزايد مضطرد في نسب العنف السياسي التي يمارسها المتطرفون العرقيون وفقًا لمشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة (ACLED)، وهو مؤسسة بحثية غير ربحية تتتبع النزاعات العالمية. في عام 2020، كانت هذه الجماعات العرقية مسؤولة عن 13% من أعمال العنف السياسي المرتبطة بالتطرف في الولايات المتحدة بواقع 57 حدثا، وبحلول عام 2024 شكلت هذه الجماعات ما يقرب من 80% من العنف المرتبط بالتطرف، بواقع 154 حدثًا.

التطرف الأبيض.. من الهامش إلى المركز

في ضوء ذلك، لا يُمكن فهم عودة الظهور المعاصر للأيديولوجية النازية شبه المنظمة في أميركا على أنها مسألة تطرف أقلية محدودة التأثير، بل إنها تعكس ظروفًا اجتماعية واقتصادية وديمغرافية هيكلية أوجدت مناخا أكثر تقبلًا للأيديولوجية المتطرفة بين شرائح سكانية بعينها. أحد العوامل الرئيسية وراء ذلك هو التغير الديمغرافي والشعور المتنامي لدى الأميركيين البيض بتراجع الهيمنة الديمغرافية.

لقد غذّت توقعات التعداد السكاني التي تشير إلى أن الأميركيين البيض سيصبحون أقلية ديمغرافية بحلول منتصف القرن مخاوف بشأن "الاستبدال" والتراجع بين بعض شرائح السكان البيض. هذه المخاوف الديمغرافية، وإن كانت مبنية على حقائق جزئيا، فقد تم تضخيمها عمدًا واستغلالها من قبل دعاة تفوق العرق الأبيض.

كما ساهم الوضع الاقتصادي المتراجع وتدني الأوضاع المالية للأميركيين من الطبقة العاملة في تعزيز الجنوح نحو التطرف. وقد أشارت الدراسات التي تناولت التطرف العرقي إلى أن الصعوبات الاقتصادية والقلق من الانحدار في السلم الاجتماعي من العوامل الرئيسية التي تدفع الأفراد نحو الحركات المتطرفة التي تُقدم أطرًا تفسيرية غير تقليدية لصعوباتهم الاقتصادية.

تُقدم أيديولوجية تفوق العرق الأبيض تفسيرًا للتدهور الاقتصادي يُلقي بالمسؤولية على جماعات عرقية أخرى بدلا من التركيز على التغيرات الاقتصادية الهيكلية أو مشاكل السياسات وإخفاقات السياسيين والحكومات.

عامل آخر لا يقل أهمية هو أن الجماعات النازية المعاصرة تستفيد من تسهيلات تكنولوجية لم تشهدها الجماعات السالفة قط، بعدما قلّص الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي من القيود على تداول الأفكار المتطرفة ووفرت بيئة خصبة للاصطياد والتجنيد.

في عهد الأمم الآرية، كان على المتطرفين المحتملين أن يقطعوا مسافات طويلة للاحتشاد في مجمع هايدن لتلقي الأفكار والتدريبات الأيديولوجية، أما اليوم فإن خوارزميات يوتيوب، ومقاطع فيديو تيك توك، والمحادثات الجماعية المشفرة، تتكفل بالمهمة. وفي المجمل، تُمكّن البنية التحتية التقنية التطرف المعاصر من أشكال من التنظيم والتجنيد والأمن التشغيلي كانت مستحيلة في العصور السابقة.

ولا ننسى التغير الأهم، وهو أن مكونا مهما من خطابات العنصريين وحتى النازيين الجدد التي كانت منبوذة لفترة طويلة، أصبح اليوم حاضرًا على ألسنة الساسة والإعلاميين من صفوف اليمين الأميركي خاصة تحت إدارة ترامب. لقد أشار السياسيون والإعلاميون المنتمون إلى أقصى اليمين في غير ما مناسبة إلى سرديات الاستبدال، وصوّروا الهجرة على أنها تهديد وجودي للهوية البيضاء، واستخدموا خطابًا ارتبط تاريخيًّا بجماعات التفوق الأبيض والنازية الجديدة.

وقد حاول السياسيون عادةً النأي بأنفسهم عن الأيديولوجية النازية الصريحة، إلا أن استخدام هؤلاء خطاب الاستبدال وروايات التهديد العنصري أوجَد بيئة ثقافية متسامحة مع مفاهيم تفوق البيض وهو ما جعل قواعدهم الجماهيرية أكثر تقبلًا للادعاءات الأيديولوجية الأكثر صراحة للجماعات المرتبطة بالنازية.

المشكلة الكبرى أنه مع تسرب هذه المفاهيم إلى الخطاب السياسي السائد، يتحاشى السياسيون التصادم مع المفاهيم التي تعتنقها أعداد متزايدة من الناس حتى لو اتفقت في محتواها الأيديولوجي مع توجهات الحركات النازية والمتطرفة.

يعكس هذا الوضع حجم الأزمة التي تعانيها المنظمات اليمينية التقليدية، بما في ذلك الحزب الجمهوري الأميركي ومختلف الحركات المحافظة، على مدار العقد الماضي. فقد أدى ظهور ترامب في المشهد السياسي منذ منتصف العقد الماضي (بالإضافة إلى عوامل أخرى) إلى تقويض الهياكل المحافظة التقليدية.

وقدم ذلك للجماعات النازية الجديدة وجماعات العرق الأبيض فرصة لتقديم نفسها على أنها بديل يميني حقيقي للتيار المحافظ السائد. لقد قدّموا لأتباعهم نقاء أيديولوجيًّا، والتزاما هيكليا، واستعدادًا لاحتضان العنف، وكلها عوامل جذبت النشطاء الذين خاب أملهم في السياسة التقليدية.

هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا. ففي زمان الأمم الآرية كانت الجماعات النازية الجديدة والهوية المسيحية مجرد أيديولوجيات كراهية متطرفة تقع على هامش الطيف السياسي وتواجه نبذا اجتماعيا، في حين أن ممارساتها العنيفة تواجهها السلطة بلا هوادة.

أما اليوم، فإن الخطاب اليميني السائد (وخطاب السلطة في كثير من الأحيان) هو الذي يغذي هذه التيارات التي تعيد بدورها تغذية الساحة السياسية بالناخبين الأيديولوجيين المتحمسين مما يوجِد علاقة نفعية مدمرة بين الطرفين، لدرجة أن وكالات إنفاذ القانون نفسها صارت مكتظة بالمتعاطفين مع هذه الأيديولوجيات.

صحيح أن الجماعات العرقية البيضاء ليست على درجة واحدة على مقاييس التطرف والاستعداد الموسع لاستخدام العنف، وصحيح أيضا أن النازية الجديدة لم تصبح بعد هي التيار السائد في اليمين الأميركي، لكن الأجواء السياسية الحالية توفر لها مناخا مثاليا للنمو والازدهار، وحدا أدنى من التضييقات والضغوط لم تحظ به طوال العقود السابقة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا