آخر الأخبار

خلوة إبستين القاتلة.. هل انكسرت صورة تشومسكي؟

شارك

أخيرا، ظهرت صورة لا يمكن تخيّل حدوثها بسهولة، المثقف النقدي الكبير نعوم تشومسكي جالس في فضاء خاص، هادئ، غير رسمي، مع جيفري إبستين. ليست الصورة فضائحية من حيث الشكل، ولا تحمل أي دلالة جنائية مباشرة، لكنها -على المستوى الرمزي- صادمة، لأنها تجمع بين مثقف راديكالي مثّل لعقود صوت النقد الجذري للسلطة، ورجل مدان بات اسمه مرادفا لشبكات النفوذ المظلمة والفساد الأخلاقي.

لم تأت الصورة وحدها. ففي ديسمبر/كانون الأول الحالي أُفرج عن دفعة جديدة من الوثائق والصور والسجلات المرتبطة بملف إبستين، ضمن مسار قانوني وإعلامي طويل أعاد فتح شبكة علاقاته مع سياسيين، وأكاديميين، وأثرياء ورجال أعمال.
وبين تلك المواد، لم يعد اسم تشومسكي ذكرا عابرا أو هامشيا، بل صار مثبتا ضمن سجل لقاءات متكرّرة، بعضها جرى بعد إدانة إبستين الأولى عام 2008.

هنا تحديدا وقعت الصدمة. ليس لأن اللقاء بحد ذاته جريمة، ولا لأن الصورة تكشف ما هو محظور قانونيا، بل لأن الخيال النقدي العام لم يكن يتّسع لهذا المشهد، فثمة مفكّر بنى مجده على تفكيك العلاقة بين المال والسلطة والإعلام، يظهر داخل دائرة اجتماعية كان هو نفسه قد وصف منطقها مرارا بأنها "مطابخ الهيمنة".

كيف بدأت الحكاية؟

في صيف عام 2023، وفي حين كانت الولايات المتحدة تعيد فتح ملفات جيفري إبستين المدان في جرائم جنسية بعد الكشف عن وثائق ومحاضر مرتبطة بشبكة علاقاته الواسعة مع سياسيين وأكاديميين ورجال أعمال، ظهر اسم غير متوقَّع في السجلات، إنه نعوم تشومسكي، أحد أكثر المثقفين النقديين تأثيرا في العالم المعاصر.

مصدر الصورة كتاب "صناعة الموافقة: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماعية" (الجزيرة)

لم يكن الأمر تسريبا صحفيا مثيرا، ولا اتهاما جنائيا. ما كُشف ببساطة هو أن تشومسكي التقى إبستين عدة مرات بعد إدانته الأولى عام 2008 في قضايا اعتداءات جنسية على قاصرات، وأن هذه اللقاءات شملت نقاشات وصفت بأنها أكاديمية وفكرية، وتناولت -بحسب ما أُعلن- السياسة العالمية، ووسائل الإعلام، وربما قضايا تتعلق بتمويل أبحاث أو تنسيق مؤسسي.

إعلان

الصدمة لم تنبع من اللقاء نفسه فقط، بل من التناقض الرمزي، فكيف لمفكر كرّس حياته لتفكيك شبكات السلطة والمال، ولتحليل التواطؤ بين النخب السياسية والاقتصادية، أن يجلس -ولو تحت عنوان "نقاش فكري"- مع شخصية باتت رمزا للفساد الأخلاقي والنفوذ المظلم؟

حين وُجّهت الأسئلة إلى تشومسكي، جاء ردّه الأولي حادا ومقتضبا. قال إن الأمر "شأن خاص" ولا يخصّ الرأي العام، وإن اللقاءات لم تنطو على أي مخالفة قانونية، ولا علاقة لها بجرائم إبستين، وإنها كانت محصورة في إطار نقاشات فكرية لا أكثر. كما أشار إلى أن الحديث عن هذه اللقاءات ينطوي على فضول غير مبرَّر، وأن التركيز عليها يشتّت الانتباه عن قضايا سياسية أكثر أهمية.

هذا التبرير -بنبرته ونطاقه- لم يُغلق النقاش، بل فتحه. فبالنسبة لكثيرين، لم يكن السؤال قانونيا، بل ثقافي وأخلاقي، وهو هل يملك المثقف النقدي حقّ الفصل التام بين أفكاره وسياق علاقاته؟ وهل يكفي القول إن "اللقاء فكري" حين يكون الطرف الآخر جزءا من شبكة نفوذ استُخدمت، لاحقا، لغسل السمعة وبناء الشرعية؟

وقدّم تشومسكي لاحقا تبريرا ذا طابع فني، إذ أوضح أن تواصله مع إبستين كان يتعلق بترتيبات مالية معقدة تخص أصول زوجته الراحلة "كارول تشومسكي". وبحسب تقارير صحفية، أشار تشومسكي إلى أن الأمر لم يتعدَّ كونه استشارة تقنية لنقل أموال خاصة بين حساباته، مؤكدا أن علاقته بإبستين كانت مصلحية بحتة.

ومع ذلك، يظل هذا التبرير بالنسبة لنقاده قاصرا، إذ يطرح تساؤلا جوهريا: هل يُعذر المفكر الذي يشرّح آليات الشر العالمي حين يختار "شخصا كإبستين" خبيرا ماليا لحل مشكلاته الشخصية؟

من هنا، تحوّلت القصة من خبر عابر إلى مادة تفكير، لا عن تشومسكي كشخص، بل عن صورة المثقف الراديكالي في زمن تتشابك فيه المعرفة مع المال، والنقد مع الامتياز، والنية مع الأثر الرمزي. هذه القراءة تنطلق من تلك اللحظة، لا لتدين، بل لتحلّل ما تكشفه الواقعة عن مأزق أوسع يواجه الخطاب النقدي المعاصر.

زلزال في الوعي الراديكالي

لم يكن تشومسكي مجرد لغوي بارع أو مفكر سياسي عابر، بل كان بالنسبة للمهمشين والناشطين حول العالم "البوصلة الأخلاقية" التي لا تضل، والمبضع الذي يشرح أكاذيب الإمبراطورية بدقة جراح. لذا، لم يمر خبر ظهور اسمه في سجلات إبستين كخبر صحفي اعتيادي، بل وقع كزلزال في الوعي الراديكالي المعاصر. كيف يمكن للرجل الذي فكك "صناعة الموافقة" أن يُستدرج إلى دوائر رجل يمثل ذروة الفساد النخبوي؟ إنها ليست مجرد قصة عن لقاءات مشبوهة، بل هي لحظة كاشفة لمأزق المثقف حين تتقاطع طرقه مع مسارات القوة التي يدعي محاربتها.

تنبغي الإشارة هنا أن كتاب "صناعة الموافقة: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماعية"، الذي أصدره تشومسكي بالاشتراك مع إدوارد هيرمان عام 1988، هو أحد أعمدة الفكر النقدي المعاصر. ويطرح الكتاب "نموذج الدعاية" (Propaganda Model) الذي يفكك كيفية عمل الماكينة الإعلامية في الديمقراطيات الغربية، حيث يجادل المؤلفان بأن الإعلام ليس سلطة رابعة مستقلة، بل هو أداة تعمل عبر "فلاتر" غير مرئية (مثل ملكية الشركات الكبرى، والاعتماد على الإعلانات، والتقارب مع المصادر الرسمية) لتشكيل رأي عام يخدم مصالح النخبة الحاكمة. والكتاب ليس مجرد نقد للإعلام، بل هو تشريح لآليات "التدجين الناعم" التي تجعل الجماهير توافق على سياسات قد تضر بمصالحها، ظنا منها أنها تمارس حرية الاختيار.

إعلان

يبقى السؤال إذن كيف يمكن للرجل الذي فكك "صناعة الموافقة" أن يُستدرج إلى دوائر هذا الأخطبوط؟ إنها ليست مجرد قصة عن لقاءات مشبوهة، بل هي لحظة كاشفة لمأزق المثقف حين تتقاطع طرقه مع "مسارات القوة التي يدعي محاربتها".

مصدر الصورة وزارة العدل الأميركية بدأت الإفراج عن وثائق التحقيقات في القضية التي هزت الأوساط السياسية والنخبوية العالمية (الفرنسية)

الأنا المتضخمة وعزلة البرج العاجي

عندما واجهت الصحافة تشومسكي بأسئلة حول طبيعة علاقته بإبستين، لم يأت رده اعتذاريا أو حتى توضيحيا بالقدر الكافي، بل جاء حادا وقاطعا "الأمر لا يخصكم". هذا الرد يضعنا أمام فرضيتين أحلاهما مرّ، ويجبرنا على التساؤل عن طبيعة "الحصانة" التي يمنحها المثقف لنفسه.

الفرضية الأولى هي الغرور الأكاديمي (The Intellectual Hubris) حيث يصل المثقف إلى مرحلة من "عصمة الذات" ما يجعله يظن نفسه فوق مستوى المساءلة الجماهيرية، إن عبارة "الأمر لا يخصكم" توحي بأن المثقف يرى لقاءاته شأنا سياديا خاصا، وكأنه يمتلك "رخصة أخلاقية" تسمح له بعبور المستنقعات دون أن يتسخ رداؤه. في هذه الحالة، يتحول المثقف من "خادم للحقيقة" إلى "سلطة موازية" لا تقبل النقد.

أما الفرضية الثانية فهي الانفصال عن الواقع، ولعل تشومسكي بوصفه عالما لغويا ومنطقيا، ينظر للأمر بآلية باردة، أي أنه مجرد "لقاء أكاديمي" لنقاش مواضيع علمية. لكنه هنا سقط في فخ "العمى الرمزي"، متجاهلا أن لقاءاته ليست مجرد تبادل للمعلومات، بل هي عملية تبادل شرعية، ففي حين كان هو يرى اللقاء "نقاشا"، كان إبستين يرى "صيدا ثمينا" يزين به قائمة علاقاته ليحمي بها نفسه من الملاحقة.

إن هذا الرد لم يكن مجرد زلة لسان، بل كشف عن فجوة مخيفة بين "تشومسكي المنظر" الذي علمنا أن كل حركة للنخبة لها غرض سياسي، وبين "تشومسكي الفرد" الذي بدا عاجزا عن تطبيق أدواته النقدية على سلوكه الشخصي.

"صناعة الموافقة" في قلب الفخ

في كتابه الشهير "صناعة الموافقة"، علّمنا تشومسكي أن النخب لا تحتاج دائما إلى السياط لفرض إرادتها، بل تستخدم "أدوات ناعمة" لتشكيل الوعي وتجميل القبح. والمفارقة المريرة هنا هي أن جيفري إبستين قد طبق دروس تشومسكي على تشومسكي نفسه!.

لم يكن إبستين يبحث عن "علم اللسانيات" في جلساته مع البروفيسور، بل كان يبحث عن "تبييض رمزي" لصفحته السوداء. إن جلوس مفكر بحجم تشومسكي معه، ومنحه وقته وجهده تحت مسمى "نقاشات أكاديمية"، هو في جوهره منح "صك غفران" ثقافي. لقد تحول المثقف الراديكالي هنا، بوعي أو بدونه، إلى رأسمال رمزي يُستثمر في سوق العلاقات العامة لشبكة إجرامية. وهنا يبرز السؤال النقدي: هل يمكن للمثقف أن يفصل "التمويل" أو "الوساطة" عن المصدر الأخلاقي؟ وكيف غاب عن ذهن "المفكك الأول للبروباغندا" أن وجوده في تلك القوائم هو بحد ذاته جزء من بروباغندا إبستين؟

مصدر الصورة ما حدث مع تشومسكي يكشف عن حالة من "العمى الطبقي" التي قد تصيب حتى الراديكاليين (رويترز)

مأزق "مَأسسة التمرد" والعمى الطبقي

بعيدا عن الانفعال بخيبة الأمل الشخصية، يطرح انكشاف هذه العلاقة سؤالا بنيويا حول "المثقف العام" في المجتمعات الغربية. إن ما حدث مع تشومسكي يكشف عن حالة من "العمى الطبقي" التي قد تصيب حتى الراديكاليين، حيث تصبح الدوائر الأكاديمية العليا (مثل MIT وهارفارد) مجتمعا مغلقا ومعزولا، تذوب فيه الفوارق الأخلاقية لصالح "التبادل المعرفي" أو "توفير الموارد".

في التحليل الثقافي، نجد أن إبستين لم يكن فردا، بل كان نقطة تقاطع (Intersection) بين 3 عوالم: السلطة السياسية، والمال المتوحش، والوجاهة الأكاديمية.

وعندما ينزلق مثقف راديكالي إلى هذه الشبكة، فإنه يكشف عن أزمة "مأسسة النقد"، أي عندما يصبح النقد مجرد "منتج ثقافي" يتم تداوله داخل أروقة النخبة نفسها التي ينتقدها. هنا، لا تعود المشكلة في "لقاء شخصي"، بل في آليات "الاحتواء الناعم" التي تجعل الثائر جزءا من المشهد العام (The Spectacle)، وتجرد خطابه من فاعليته الأخلاقية بتحويله إلى مجرد "رأي آخر" على مائدة العشاء الخاصة بالنخبة.

سيادة النقد العاري

إن قضية تشومسكي وإبستين ليست مجرد سقطة في سيرة ذاتية حافلة، بل هي إعلان عن صدمة المثقف المرجعي الكلي الذي يمثل الضمير المطلق. نحن ننتقل اليوم من "المثقف المعصوم" الذي يُصدّق في كل شيء، إلى النقد العمومي الذي يفكك الخطاب بمعزل عن سيرة قائله.

إعلان

يكشف هذا الانزلاق أن الحصانة من غواية النفوذ ليست مكتسبة بالمعرفة وحدها، بل باليقظة تجاه "الاستثناءات" التي يمنحها النظام للنخبة الأكاديمية. إن الدرس الأكبر الذي يقدمه هذا المشهد هو أن النقد لا يسكن في الأشخاص، بل في الممارسة، وأن الأفكار الراديكالية التي نشرها تشومسكي حول "صناعة الموافقة" وتفكيك السلطة قد أصبحت اليوم ملكا للمجتمع، وهي قوية بما يكفي لتُستخدم في نقد تشومسكي نفسه.

يُعد نعوم تشومسكي الوريث الأخير لنموذج "المثقف النبي" في الثقافة الغربية، وهو المصطلح الذي لم يطلقه عليه شخص بعينه، بل نحتته الصحافة العالمية (مثل الغارديان والنيويوركر) والأوساط الأكاديمية لوصف "السلطة الأخلاقية" التي يتمتع بها. هذا النموذج، الذي نظّر له ماكس فيبر وإدوارد سعيد، لا يكتفي بتقديم المعرفة، بل يطرح رؤية "خلاصية" تبشر بالعدل وتواجه الطواغيت بكلمة الحق.

لقد نُظر إلى تشومسكي طوال عقود كصوت "مقدس" يتحدث من فوق برجه العاجي في "إم آي تي"، زاهدا في إغراءات السلطة، وصامدا أمام آلة البروباغندا العالمية، مما جعل مريديه لا يرون فيه مجرد لغوي، بل "بوصلة" لا تخطئ في التمييز بين الخير والشر السياسي.

لكن لقب "المثقف النبي" الذي منحه الجمهور لتشومسكي كان هو نفسه الفخ الذي جعل السقوط مدويا، فالأنبياء لا يخطئون، والرموز الأخلاقية لا تجلس في "المجالس الخاصة" للأوليغارشية المتوحشة. لذا، لم تكن قضية جيفري إبستين مجرد سقطة اجتماعية لمفكر طاعن في السن، بل كانت "زلزالا وجوديا" لملايين المؤمنين بخطابه.

إن حجم الخيبة هنا ينبع من الشعور بأن الحصن الأخير الذي كان يفكك "صناعة الموافقة" قد تورط -ولو رمزيا- في آلة "غسيل السمعة" الخاصة بأحد أقبح وجوه النظام الذي كان يحاربه. لقد كانت خيبة تعادل حجم "القداسة" التي أُسِبغت عليه، فمع انكشاف هذه اللقاءات، لم يتحطم تشومسكي الإنسان، بل تحطمت فكرة "المثقف المنزّه"، تاركة الجماهير في عراء نقدي يفرض عليهم مواجهة الحقائق دون مرشد أو نبي.

في نهاية المطاف، يبقى النقد الثقافي هو الأداة التي تحمي الوعي الجمعي من "تأليه الرموز"، مذكرا إيانا بأن الحقيقة لا تكتمل إلا عندما نجرؤ على مساءلة "المعلم" بذات الأدوات التي علمنا إياها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار