في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
قبل نحو عشر سنوات وبالتحديد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، انطلقت في مدينة بنغازي بشرق ليبيا مبادرة ثقافية فريدة تحت اسم "تاناروت"، أسسها ثلاثة مثقفين من مجالات مختلفة، بهدف إعادة الحياة إلى المدينة، التي أنهكتها سنوات الحرب وما صاحبها من دمار، لم يقتصر على البنيان، بل امتد تأثيره أيضا إلى نفسية المجتمع، خاصة لدى الشباب، فكانت "تاناروت" محاولة جريئة لخلق مساحة ثقافية مهمة وسط المعاناة.
بدأ التجمع في غرفة صغيرة بمنطقة "البركة"، التي تبعد حوالي 3 كيلو متر عن خط النار، بحسب ما حكى لـDW محمد بوسنينة، الرئيس التنفيذي لتجمع "تاناروت".
بدأ نشاط "تاناروت" بالسينما وتعلم الخط العربي والرسم والقراءة. وتطورت الأنشطة من حيث النوع والعدد، فمع تزايد عدد المشاركين في المبادرة "تحولت هذه الغرفة إلى فضاء حالم، منفصل عن واقع الحرب، حيث تشعر وأنت بداخلها أنك بعيد تماما عمّا يحدث في الخارج" من عنف ودمار، يوضح بوسنينة.
واجهت "تاناروت" تحديات كبيرة، أبرزها رفض بعض فئات المجتمع لفكرة النشاط الثقافي في ظل الحرب، معتبرينه ترفًا غير مناسب في ذلك الوقت، يقول بوسنينة. كما أن إنشاء تجمع ثقافي يقوم بعرض أفلام وتعليم موسيقى وقراءة كتب كان يواجه بتحفظات من البعض في المجتمع . وكذلك شكّل التنوع في المشاركين، الذين كانوا من مختلف الأعمار، ذكورا وإناثا تحديًا اجتماعيًا، يؤكد الرئيس التنفيذي لتجمع "تاناروت".
غياب التمويل أيضا كان من بين أهم العوائق؛ إلا أن الإصرار على الاستمرار دفع الأعضاء إلى تمويل الأنشطة ذاتيًا، حتى أن إحدى المشاركات باعت مصوغاتها لدعم التجمع . وكان الدعم المادي لتجمع "تاناروت" يأتي بشكل كامل تقريباً عن طريق الأعضاء، سواء من رسوم العضوية أو مساهمات الأعضاء في التكفل بنفقات الأنشطة، بحسب محمد بوسنينة.
زوار من مختلف الأعمار في معرض رواق الفني، الذي نظمه مركز "براح" للثقافة والفنون في بنغازي عام 2024صورة من: Barah Organizationقدم تجمع "تاناروت" العديد من الأنشطة للشباب، منها "نادي السينما"، وهو لقاء أسبوعي، يعرض أحد الأفلام تليه جلسة نقاش يتضمن جوانب مختلفة، سواء من حيث قصة الفيلم أو الأداء أو الإخراج أو الموسيقى، بحسب ما حكى لدويتشه فيله (DW) محمد بوسنينة، الرئيس التنفيذي لتجمع "تاناروت".
كانت هناك أيضا دورات لتعليم الرسم والعزف علي العديد من الآلات الموسيقية، علاوة على نادي الكتاب "الذي قمنا من خلاله بتعزيز فكرة القراءة والفهم"، يقول بوسنينة. وتتلخص في الفكرة في أن أعضاء النادي يقومون بقراءة كتاب بشكل منفصل، ومن ثم مناقشته بشكل جماعي في لقاءات ثابته داخل مقر تاناروت. كما ضم التجمع مكتبة شاملة بها العديد من الكتب القيمة مفتوحة لكل الراغبين في القراءة طوال أيام الأسبوع. وكانت هناك أيضا معارض فنية تحولت إلى مهرجانات مصغرة، مثل معرض الفن التشكيلي "خبز الغراب"، ومعرض الصور الفوتوغرافية "الحرب مرت من هنا"، وغيرها من المعارض.
من أبرز الفعاليات التي كانت "تاناروت" تنظمها هي فعالية الاحتفال باليوم العالمي للكتاب، والتي تتضمن توزيع كتب مجانية وجلسات قراءة جماعية. صورة من: Tanarout Clubويقول بوسنينة إن من أبرز الفعاليات التي نظمها "تاناروت" الاحتفال باليوم العالمي للكتاب ، حيث نُظمت أول احتفالية عام 2016 في شارع دبي، تضمنت توزيع كتب مجانية وجلسات قراءة وحفلا موسيقيا مصغرا.
وفي 2017، أقيمت الفعالية في ساحة "قصر القشلة" بقلب المدينة، وهو قصر أثرى له رمزية كبيرة لأهالي بنغازي ، وشهدت الفعالية حضورًا كبيرا.
أما آخر احتفالية باليوم العالمي للكتاب نظمها تاناروت، فجرت في أحد أكثر الأحياء المتضررة بوسط المدينة، وتم نشر أرفف الكتب وسط الأنقاض، وعقدت جلسة القراءة في نفس المكان، كما جرى إقامة حفلة موسيقية بمشاركة أكثر من فنان وخلفهم آثار دمار الحرب وأمامهم جمهور يحمل كل واحد منهم كتابا في يده.
شهد تجمع تاناروت إقبالًا كبيرًا منذ البداية، خاصة في الفعاليات الكبرى، وتنوعت الأنشطة لاحقًا لتشمل أسبوع الفيلم الليبي، والذي كان بمثابة سينما مصغرة تعرض فيه الكثير من الأفلام الليبية، وتعقد الندوات والورش حول صناعة الأفلام ومستقبلها في ليبيا ، وأيضاً العروض المسرحية والندوات الخاصة بالمسرح، والأمسيات الشعرية.
أما آخر شيء أضافه تاناروت لأنشطته فهو نادي الترجمة، والذي تم الإعلان عنه قبل يوم واحد من التعليق النهائي لعمل التجمع، بحسب بوسنينة.
تنوع المشاركون في أنشطة تجمع "تاناروت"، من شباب وكبار وصغار وذكور وإناث. الصورة هنا لشابتين تشاركان في فعالية أسبوع الفيلم الليبي في بنغازي (أرشيف: ديسمبر/ كانون الأول 2017)صورة من: Tanarout/DWورغم كل الأنشطة والتفاعل الكبير معها، توقف ملتقى "تاناروت" الثقافي في بنغازي في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2020، بعد خمس سنوات من النشاط الثقافي والفني المكثف، بسبب مجموعة من التحديات التي تراكمت وأثرت على استمراريته.
أبرز هذه التحديات كان سوء الفهم المجتمعي لطبيعة التجمع ، حيث واجه "تاناروت" منذ تأسيسه هجمات إعلامية عبر منصات التواصل الاجتماعي، اتهمته بأنه تجمع شبابي مختلط يروج لأنشطة غير مرحب بها اجتماعيًا، رغم أن أهدافه كانت ثقافية وفنية بحتة.
وأوضح بوسنينة أن هذه الحملات أدت إلى رفع قضايا قانونية ضد أعضاء التجمع، ورغم رفضها من قبل المحكمة، إلا أن الضرر المجتمعي كان قد وقع، خاصة من سكان الأحياء المجاورة لمقر التجمع، الذين أبدوا رفضهم لوجوده بينهم، مما شكل خطرًا على استمراره.
إلى جانب ذلك، عانى "تاناروت" من غياب الدعم الرسمي، فلم يتلق أي تأييد من الجهات الثقافية أو الحكومية، ما جعله يعتمد بالكامل على مساهمات أعضائه لتغطية التكاليف الأساسية. ورغم الإقبال الكبير على أنشطته، إلا أن الاستمرار دون تمويل كان شبه مستحيل، بحسب بوسنينة.
بعد إغلاقه، ترك "تاناروت" فراغًا نفسيًا وثقافيًا لدى الشباب، حيث عبّر العديد من أعضائه عن شعورهم بالاكتئاب وفقدان الشغف. وتحذر الخبيرة النفسية إيمان محمد من آثار غياب الأنشطة الشبابية، مؤكدة أن ذلك يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية، مثل الاكتئاب، ضعف المهارات، الميل للسلوكيات الخطرة وتراجع الصحة الجسدية، مشددة على أهمية البيئة الداعمة في تنمية الشباب وحمايتهم من الانحراف.
وتؤكد الخبيرة في المجال النفسي والاجتماعي، في حديثها لـDW أن "الأنشطة الثقافية والفنية ليست ترفًا، بل ضرورة نفسية واجتماعية. غيابها يترك فراغًا قد يملؤه السلوك السلبي، بينما وجودها يسهم في بناء شخصية متوازنة قادرة على مواجهة تحديات الحياة".
ألهم التجمع مبادرات ثقافية جديدة، أبرزها مركز "براح" الذي أسسه أحد أعضاء تاناروت. ويروي حازم الفرجاني، رئيس مؤسسة "براح للثقافة والفنون"، لـDW كيف تحولت المؤسسة إلى مساحة بديلة بعد توقف "تاناروت".
انطلقت "براح" عام 2019 في بنغازي، وسرعان ما أصبحت منصة لدمج الشباب من مختلف الخلفيات، عبر أكثر من 300 نشاط و73 معرضًا، شملت ورشًا بيئية، تعليم لغات وموسيقى وشطرنج، وكذلك مرسما حرا، مكتبة عامة واستوديوهات للبودكاست والتصوير.
وفي ظل غياب الدعم الحكومي والدولي، اعتمدت "براح" على اشتراكات أعضائها، الذين تجاوز عددهم 60 عضوا، ما ساعد في الاستمرار وتوفير مقر ثابت. كما تعاونت "براح" مع مؤسسات محلية ونظّمت فعاليات مشتركة مع مراكز ثقافية في طرابلس ودرنة قبل كارثة عاصفة دانيال.
براعم من الجنسين تشارك في إحدى فعاليات مركز "براح" للفنون والثقافة في بنغازي (يونيو/ حزيران 2023)صورة من: Barah Organizationويشير الفرجاني في حديثه لـDW إلى أن الهدف لم يكن فقط تطوير المواهب، بل توفير بيئة آمنة وبديلة للأسرة، تتابع الحالة النفسية للشباب وتساعدهم على تجاوز آثار الحرب، فـ"بعض المشاركين تخلصوا من الخجل، بينما تخلص آخرون من النزعة العدائية أو التعصب ووجدوا في "براح" مساحة للتعبير والانطلاق".
ويختم الفرجاني حديثه بالتأكيد على أن "مستقبل ليبيا مرهون بمدى اهتمام المؤسسات بالشباب"، عبر فتح المسارح وتنظيم المهرجانات الثقافية وبناء بيئة ثقافية حقيقية. فـالشباب، كما يقول: "هم مستقبل البلاد، وإذا تُركوا دون دعم، فإن الخطر يهدد الجميع".