ملف خاص| تفكيك الدول بالاعتراف: أرض الصومال كنموذج لصراع النفوذ الجديد
اعتراف صهيوني بأرض الصومال… خطوة تفجّر صراع النفوذ في القرن الإفريقي
الجزائرالٱن _ أعاد إعلان الكيان الصهيوني الاعتراف بما يسمى «جمهورية أرض الصومال» خلط الأوراق في القرن الإفريقي، وفتح فصلاً جديدًا من التوتر الجيوسياسي في منطقة تتقاطع فيها رهانات الأمن والطاقة والملاحة الدولية.
الخطوة، التي جاءت عقب لقاء جمع رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو برئيس الإقليم الانفصالي، لم تُقرأ إقليميًا ولا دوليًا باعتبارها إجراءً دبلوماسيًا عاديًا، بل اعتُبرت مساسًا مباشرًا بوحدة دولة ذات سيادة، ومحاولة لفرض واقع سياسي جديد خارج كل الأطر القانونية المعترف بها.
وسارعت الحكومة الفدرالية الصومالية إلى إطلاق تحرك دبلوماسي واسع لحشد الدعم الرافض لهذا الاعتراف، مؤكدة أنه يتعارض مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للاتحاد الإفريقي، ويهدد أمن واستقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
● اختراق القرن الإفريقي: قراءة في الخلفيات الاستراتيجية
في هذا السياق، يؤكد الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية والمتخصص في الشؤون الإفريقية، البروفيسور قوي بوحنية، للصحيفة الإلكترونية “الجزائر الآن”، أن الاعتراف الصهيوني بأرض الصومال لا يمكن فصله عن استراتيجية إسرائيلية متكاملة لاختراق القرن الإفريقي، وترسيخ حضور سياسي واستخباراتي واقتصادي في منطقة بالغة الحساسية.
ويشير بوحنية إلى أن هذه المنطقة تطل مباشرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، ما يجعلها هدفًا استراتيجيًا لكل القوى الساعية إلى توسيع نفوذها خارج المجال العربي التقليدي.
ووفق المتحدث، فإن تل أبيب تسعى من خلال هذا التموضع إلى بناء هامش مناورة أوسع، يسمح لها بالتأثير في خطوط الملاحة الدولية، ومراقبة التحركات العسكرية، وتثبيت موطئ قدم دائم في خاصرة الأمن العربي.
● تطويق الحوثيين وإرباك الأدوار الإقليمية
يوضح بوحنية أن أحد الأهداف المركزية لهذا التحرك يتمثل في تطويق الحوثيين في اليمن، ومراقبة تحركاتهم في البحر الأحمر وخليج عدن، ضمن مقاربة أمنية تتقاطع فيها المصالح الصهيونية مع حسابات بعض القوى الإقليمية.
ويضيف أن هذا التوجه يربك في الوقت ذاته الأدوار الإقليمية التقليدية، خصوصًا الدور السعودي في البحر الأحمر، والدور المصري المرتبط بأمن قناة السويس، فضلًا عن التأثير غير المباشر على الحضور التركي التاريخي في القرن الإفريقي.
ويرى أن الكيان الصهيوني يسعى إلى إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة بطريقة تخدم مشروعًا طويل الأمد، يقوم على فرض الأمر الواقع بدل احترام التوازنات القائمة.
● ازدواجية المعايير وتآكل الشرعية الدولية
من زاوية قانونية وسياسية، يرى البروفيسور بوحنية أن الاعتراف بأرض الصومال يكشف ازدواجية صارخة في معايير النظام الدولي.
فبينما يعترف الكيان الصهيوني بكيانات انفصالية جديدة في إفريقيا، يواصل في المقابل تعطيل قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويُمعن في انتهاك القانون الدولي دون مساءلة حقيقية.
ويؤكد أن هذه الممارسات تُقوّض مفهوم الشرعية الدولية، وتُفرغ مبادئ السيادة ووحدة الدول من محتواها، في وقت يُفترض فيه أن تكون هذه القيم أساس العلاقات الدولية المعاصرة، لا أدوات تُستخدم بانتقائية لخدمة مصالح ضيقة.
● إضعاف القضية الفلسطينية وتحويل بوصلة الاهتمام الدولي
بحسب بوحنية، يُسهم توسع التحالفات الصهيونية خارج الإطار العربي في إضعاف الموقف الفلسطيني على الساحة الدولية.
إذ يسمح بتحويل الأنظار بعيدًا عن جوهر الصراع العربي–الصهيوني، وخلق شبكات دعم سياسية واقتصادية جديدة تقلل من تأثير التحركات الدبلوماسية الفلسطينية.
كما يحذّر بوحنية في حديثه لـ”الجزائر الآن” من أن هذا المسار قد يدفع بعض الدول الإفريقية والعربية إلى تغليب مصالحها الاقتصادية الظرفية على حساب التزاماتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، ما ينعكس سلبًا على مركزيتها في الوعي السياسي الإقليمي والدولي.
● أرض الصومال… منصة استخباراتية عند باب المندب
يحمل الاعتراف الصهيوني، وفق متابعين، أبعادًا استراتيجية عميقة، خصوصًا في ظل الحديث عن بنية عسكرية واستخباراتية في الإقليم الانفصالي.
فموقع أرض الصومال عند مدخل باب المندب يمنح أي وجود أجنبي هناك قدرة متقدمة على مراقبة الملاحة الدولية، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتتبع تحركات الجماعات المسلحة في اليمن والقرن الإفريقي.
ويمثل هذا التموضع، بحسب محللين، أداة ضغط فعالة في مواجهة الحوثيين، كما يخدم استراتيجية أوسع لمحاصرة النفوذ الإيراني، وإن كان ذلك يتم على حساب أدوار عربية تقليدية، وعلى رأسها السعودية ومصر.
● باب المندب: شريان الطاقة والتجارة العالمية
يُعد مضيق باب المندب أحد أهم الممرات البحرية في العالم، حيث تمر عبره يوميًا قرابة أربعة ملايين برميل نفط، إضافة إلى كميات هائلة من البضائع والحاويات المتجهة من آسيا والشرق الأوسط نحو أوروبا.
وأي اضطراب في هذا المضيق ينعكس مباشرة على أسعار الطاقة وسلاسل الإمداد العالمية، ما يفسر – بحسب مراقبين – حرص الكيان الصهيوني على ربط وجوده بالأمن البحري الدولي، وتعزيز قدرته على التأثير في موازين القوى الإقليمية عبر التحكم غير المباشر في هذا الشريان الحيوي.
● تحالفات جديدة خارج السياق العربي
يتجاوز الاعتراف بأرض الصومال البعد الدبلوماسي، ليفتح المجال أمام شراكات أمنية واقتصادية جديدة قد تعرقل جهود إعادة بناء الدولة الصومالية الموحدة. ويرى متابعون أن هذا التوجه قد يُسهم في إعادة تشكيل التحالفات السياسية في القرن الإفريقي، وخلق بؤر توتر جديدة في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة أمنية وسياسية مزمنة.
● الاتفاقات الإبراهيمية واختراق القرن الإفريقي
في هذا الإطار، يشير محللون إلى أن التعاون بين الكيان الصهيوني وبعض الدول الموقعة على الاتفاقات الإبراهيمية، وعلى رأسها الإمارات، شكّل تحالفًا عمليًا لتعزيز النفوذ في القرن الإفريقي. فبينما توفر أبوظبي الدعم اللوجستي والاقتصادي، يقدم الكيان الصهيوني الخبرات الاستخباراتية والعسكرية.
ويتيح هذا التحالف مراقبة الملاحة البحرية، وتطويق الحوثيين في اليمن، ودعم كيانات محلية حليفة مثل أرض الصومال، بما يضعف التوازنات التقليدية والدور العربي التاريخي في البحر الأحمر.
● اعتراف ليس وليد اللحظة
من جهته، يؤكد الدكتور رابح لعروسي، المحاضر بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3، للصحيفة الإلكترونية “الجزائر الآن” أن الاعتراف الصهيوني بأرض الصومال لا يمكن فصله عن مسار طويل من الترتيبات الخفية والتحالفات غير المعلنة التي جرى التحضير لها منذ سنوات.
ويشير لعروسي إلى الخلفية الاستعمارية للإقليم، الذي كان خاضعًا للنفوذ البريطاني، معتبرًا أن لندن ما تزال تقدم دعمًا لوجستيًا وإداريًا للإقليم حتى بعد إعلان انفصاله عن الصومال الفدرالي سنة 1991.
● اعتراف على الورق وتحدٍ للإجماع الدولي
يرى لعروسي أن هذا الاعتراف يظل «اعترافًا على الورق»، في ظل الرفض القاطع من الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى تحفظات دولية واسعة، بما فيها بعض الدول الأوروبية.
وتعتبر أن هذه الخطوة تعكس إصرار الكيان الصهيوني على التصرف خارج منظومة الشرعية الدولية، والتعامل مع القانون الدولي بمنطق انتقائي، يضع المصالح فوق المبادئ.
● رهانات أمنية تتجاوز الدبلوماسية
يوضح لعروسي أن دوافع هذا التحرك تتجاوز البعد الدبلوماسي، لتشمل رهانات أمنية واستراتيجية دقيقة، من بينها البحث عن موطئ قدم دائم في القرن الإفريقي، ومراقبة البحر الأحمر وخليج عدن، ومواجهة الامتداد الحوثي في اليمن، فضلًا عن الحد من النفوذ التركي داخل الأراضي الصومالية.
● ارتباط مقلق بملف غزة
ويكشف لعروسي عن معطيات وتقارير تتحدث عن اتصالات مسبقة مرتبطة بمخططات تهجير قسري لسكان قطاع غزة نحو أرض الصومال، معتبرًا أن هذا المعطى – إن تأكد – يشكل دليلًا إضافيًا على الطابع التوسعي للمشروع الصهيوني، ومحاولاته فرض حلول قسرية على حساب الحقوق الفلسطينية.
● مشروع تفكيك الدول وإعادة هندسة الإقليم
في قراءة أوسع للمشهد، يؤكد المحلل السياسي والخبير الاستراتيجي سيف الدين قدّاش لـ”الجزائر الآن” أن التحركات الصهيونية في القرن الإفريقي تندرج ضمن مشروع جيوسياسي واسع لإعادة تشكيل الإقليم، يقوم على تفكيك الدول الهشّة، وزرع كيانات وظيفية تُدار بالوكالة.
ويرى قدّاش أن الصراعات الجارية في المنطقة لم تعد مطالب انفصالية معزولة، بل أدوات ضمن استراتيجية دولية لإضعاف الدولة الوطنية، واستبدالها بكيانات صغيرة تُستخدم كمنصات نفوذ سياسي وعسكري.
● أرض الصومال ككيان وظيفي
بحسب قدّاش، لا يمكن قراءة الدفع نحو الاعتراف بأرض الصومال باعتباره انتصارًا لحق تقرير المصير، بل خطوة محسوبة لتحويل الإقليم إلى منصة عسكرية واستخباراتية ولوجستية، تخدم مصالح أمنية في مقدمتها مصالح الكيان الصهيوني وحلفائه.
ويضيف أن هذا التموضع يمنح قدرة على التحكم غير المباشر في باب المندب، وتحويل القرن الإفريقي إلى خاصرة مفتوحة للضغط على مصر، ومراقبة الملاحة السعودية، والتأثير في مسارات الصراع في اليمن.
● البحر الأحمر… الجائزة الاستراتيجية الكبرى
يشدد قدّاش على أن البحر الأحمر بات جائزة استراتيجية في صراع النفوذ الدولي، إذ إن السيطرة عليه، ولو بشكل غير مباشر، تعني امتلاك ورقة ضغط جيوسياسية عالية التأثير، تُدار بأدوات أقل كلفة من الاحتلال المباشر، لكنها أشد خطورة على المدى المتوسط والبعيد.
● الجزائر: موقف سيادي ودبلوماسية المبدأ
وسط هذا المشهد المعقّد، يبرز الموقف الجزائري كأحد أكثر المواقف وضوحًا وثباتًا. فقد أكدت الجزائر، عبر بيانات رسمية، رفضها القاطع لأي تدخل خارجي أحادي يهدد وحدة الدول وسيادتها، واعتبرت الاعتراف الصهيوني بأرض الصومال سابقة خطيرة تمس استقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
وترى الجزائر أن أمن إفريقيا والشرق الأوسط لا يتحقق عبر تفكيك الدول، بل عبر دعم سيادتها، ورفض الكيانات الوظيفية، والحفاظ على مركزية القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني.
● دور جزائري داخل الاتحاد الإفريقي
ولا يقتصر الدور الجزائري على المواقف المعلنة، بل يمتد إلى تحرك دبلوماسي فعّال داخل المنظمات الدولية، ولا سيما الاتحاد الإفريقي، حيث ساهمت الجزائر في غلق الطريق أمام محاولات منح الكيان الصهيوني صفة عضو مراقب، دفاعًا عن مبادئ الشرعية الدولية ووحدة الدول الإفريقية.
● موقف مقديشو: خط أحمر لا يقبل المساومة
في المقابل، اعتبر وزير الثروة السمكية والاقتصاد الأزرق الصومالي أحمد حسن أن الاعتراف الصهيوني يمثل «تدخلًا عدائيًا سافرًا في الشأن الداخلي لدولة ذات سيادة»، مؤكدًا أن الحكومة الصومالية لن تسمح بتحويل أي مدينة إلى منصة تهديد أو قاعدة نفوذ أجنبي.
وحذّر الوزير من تداعيات الخطوة على الأمن القومي الصومالي، معتبرًا أنها تفتح الباب أمام اختراقات أمنية خطيرة، وتهدد أمن البحر الأحمر وخليج عدن، وتُعقّد جهود مكافحة الإرهاب.
● معركة خرائط لا حدود
في المحصلة، يرى مراقبون أن ما يجري في القرن الإفريقي هو معركة خرائط ونفوذ تُدار بأدوات غير تقليدية، حيث تُستخدم الاعترافات الأحادية والكيانات الوظيفية لإعادة ترتيب الإقليم. وفي قلب هذه التحولات، تظل القضية الفلسطينية حاضرة، حتى وإن جرى استهدافها من الأطراف.
وسط هذا الواقع، تبرز الجزائر كصوت تحذير وعقل استراتيجي يدرك أن تفكيك الدول هو المدخل الأخطر لضرب الأمن الإقليمي، وأن احترام السيادة يظل الأساس الوحيد لاستقرار دائم.
ما يجري في أرض الصومال ليس خلافًا حدوديًا، بل نموذجًا أوليًا لإعادة هندسة الإقليم عبر كيانات وظيفية… وإذا نجح هنا، سيتكرر في مناطق أخرى.”.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة