● تجريم الاستعمار الفرنسي: الجزائر تنتقل من إدارة الذاكرة إلى سيادة القانون | مختصون يشرحون
الجزائر الآن _ تتجه الأنظار، يوم غد، إلى مبنى زيغود يوسف، حيث يشرع نواب المجلس الشعبي الوطني في المصادقة النهائية على مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي ، بعد أن عرفت نسخته الأولى جملة من التعديلات الجوهرية .
وتندرج هذه الخطوة ضمن محطة تاريخية مفصلية تعكس مسارًا تشريعيًا واضح المعالم، يهدف إلى ترسيخ العدالة التاريخية، ودفع المستعمر إلى تحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية من خلال الاعتراف بجرائمه وتعويض الشعب الجزائري عنها.
● الجزائر تقنن ذاكرتها الوطنية
وفي هذا الإطار كشف النائب البرلماني سعد بغيجة، عضو لجنة الشؤون القانونية لصحيفة “الجزائر الآن” الإلكترونية، أن مشروع القانون يسعى لتحويل الذاكرة الوطنية من موقف أخلاقي وسياسي إلى التزام قانوني ، يجبر الدولة الفرنسية على الاعتراف بما اقترفته خلال فترة الاستعمار.
وأضاف أن المشروع يتكون من خمسة فصول و27 مادة، ويستند إلى مبادئ القانون الدولي، مؤكداً حق الشعب الجزائري في الإنصاف وتحقيق العدالة التاريخية ومنع الإفلات من العقاب .
● تجريم الانتهاكات الاستعمارية
وأوضح النائب البرلماني أن مشروع القانون يشمل كافة الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي خلال 132 سنة من الاحتلال، منها:
الاعتداء على الحريات الفردية، الاعتداء على شرف الأشخاص، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، تدنيس دور العبادة وطمس الهوية الوطنية، التجارب الكيميائية والنووية مثل تجربة “اليربوع الأزرق”، والتلاعب بنظام الحالة المدنية وإلحاق الألقاب المشينة بالجزائريين، إضافة إلى الاعتداء على حرمة الموتى .
● الضمان القانوني وعدم الإفلات من العقاب
وأشار بغيجة إلى أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، سواء ارتكبها عناصر الجيش أو الشرطة أو الأجهزة النظامية، أو المليشيات المسلحة، سواء كفاعلين أصليين أو شركاء أو بالتحريض أو التواطؤ. كما اعتبر أي تعاون مع الحركي ومن في حكمهم ضد النضال الوطني جريمة خيانة عظمى .
وأكد النائب البرلماني أن القانون ينص على معاقبة كل من يقوم بقول أو فعل أو إشارة أو كتابة أو نشر محتوى يهدف إلى تمجيد الاستعمار الفرنسي أو الإشادة به، مع مضاعفة العقوبة في حالة العود.
وتشمل العقوبات أيضًا كل من يعتدي على كرامة الأفراد أو الجماعات باستخدام ألقاب مشينة أو السب أو الشتم ضد مناضلين من أجل السيادة الوطنية .
● البعد الاستراتيجي والدبلوماسي للقانون
وأضاف بغيجة: “هذا المشروع يعكس انتقال الجزائر من إدارة الذاكرة إلى تقنينها تشريعيًا، ويمنحها قوة قانونية وأخلاقية في المحافل الدولية، ويعزز موقعها التفاوضي في أي مقاربة مستقبلية تتعلق بملف الاستعمار والذاكرة الوطنية”.
وأكد أن الهدف ليس التصعيد، بل تثبيت الحقيقة التاريخية وتعزيز العدالة الرمزية وصون الهوية الوطنية .
وأوضح النائب البرلماني أن إعداد القانون شمل استشارة المجاهدين ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى لجنة صياغة متخصصة لضمان شمولية النص ووضوحه، مع الالتزام بالإطار الدستوري والقوانين العضوية المنظمة.
كما أكد أن مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ستعمل على حفظ الذاكرة الوطنية ونقلها للأجيال القادمة، وتعزيز الهوية الثقافية والتاريخية للشعب الجزائري .
خطوة تاريخية وسيادية
واختتم بغيجة تصريحه لـ”الجزائر الآن” بالقول: “مشروع قانون تجريم الاستعمار يمثل خطوة تاريخية وسياسية وسيادية، تترجم التزام الجزائر بحماية الذاكرة الوطنية وتعزيز العدالة التاريخية لشعوب القارة الإفريقية، وتكرس سيادتها التاريخية والقانونية داخليًا وخارجيًا، بما يواكب إعلان الجزائر ويؤكد موقعها الاستراتيجي في العالم “.
● البروفيسور إسلام عطية: تقنين الذاكرة كركيزة للسيادة
من جهته، أكد البروفيسور إسلام عطية، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر في حديثه لـ”الجزائر الآن”، أن القانون يجسد انتقال الجزائر من مرحلة إدارة الذاكرة إلى تقنينها ضمن منظومة السيادة الوطنية.
وأضاف أن الذاكرة ليست مجرد ملف عاطفي، بل مكون أساسي من السيادة، وأن الاستقلال يعني استعادة الكرامة والتاريخ والأرشيف، وفرض مسارات الاعتراف والاعتذار وجبر الضرر من طرف فرنسا، مستعمر الأمس وعدو اليوم .
● توصيف قانوني لجرائم دولة
وأشار عطية إلى أن المشروع يوصّف الجرائم الاستعمارية كجرائم دولة ممنهجة، لا أحداثًا معزولة، بما يتوافق مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، ولا سيما الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم.
وأضاف أن التوصيف يوضح أن الاستعمار كان منظومة عنف بنيوي شملت الإبادة والنهب والتهجير والتجريد من الإنسانية، ويُفكك السرديات التي حاولت تبريره باعتباره “مشروعًا حضاريًا “.
● من الخطاب الرمزي إلى الإطار الإلزامي
وأوضح البروفيسور أن الميزة الأساسية في المشروع هي انتقاله من الخطاب الرمزي إلى إطار قانوني ملزم، موضحًا أن المبادرات السابقة كانت محدودة بالمقاربة السياسية أو التاريخية أو الدبلوماسية، بينما يوفر القانون مرجعية وطنية واضحة تُحمّل الاستعمار مسؤوليته الجنائية والأخلاقية.
ويشمل المشروع تعريف الجرائم، تجريم تمجيد الاستعمار، حماية الذاكرة الوطنية، وفتح آفاق قانونية للمطالبة بالاعتراف والاعتذار والتعويض .
● ثلاث مستويات لتفعيل القانون
ربط عطية فعالية القانون بثلاث مستويات :
تشريعي: استصدار نصوص تنظيمية مرافقة، وإدماج مضامين القانون في قطاعات التربية والإعلام والثقافة لحماية الذاكرة .
ميداني: دعم البحث الأكاديمي، فتح الأرشيف، تشجيع التوثيق، وإطلاق برامج وطنية لحفظ الذاكرة .
دبلوماسي: استثمار القانون كأداة قانونية وأخلاقية في المحافل الدولية، لتثبيت الرواية الجزائرية بلغة القانون .
● العدالة التاريخية بدل الانتقام
أكد عطية أن القانون يهدف إلى العدالة التاريخية، لا الانتقام، عبر تحميل الدولة الاستعمارية مسؤولية أفعالها وفتح المجال القانوني للمطالبة بالاعتراف والاعتذار والتعويض، وفق مقاربة عقلانية تستند إلى التوثيق والقانون الدولي .
● ترجمة عملية لإعلان الجزائر
وأشار عطيه في حديثه لـ”الجزائر الآن” إلى أن مشروع القانون يمثل ترجمة عملية لروح “إعلان الجزائر”، خاصة في شقه المتعلق بتجريم الاستعمار وإنصاف الشعوب الإفريقية والدفاع عن العدالة التاريخية.
مؤكداً أن الجزائر تضع نفسها كفاعل قاري ودولي مدافع عن قضايا التحرر والكرامة الإنسانية، وتوجه رسالة مفادها أن الذاكرة شرط لبناء المستقبل على أسس عادلة .
● من الرمز إلى السيادة القانونية
في نفس السياق، يجمع المختصون على أن مشروع القانون يمثل تحولًا نوعيًا في مقاربة الجزائر لملف الذاكرة، من قضية رمزية وتاريخية إلى ركيزة من ركائز السيادة الوطنية، مع توصيف الاستعمار كجريمة دولة لا كحدث تاريخي معزول، يشمل القتل الجماعي، التهجير، الإبادة الثقافية، الجرائم الجنسية، والتدمير البيئي .
● حماية الذاكرة ومواجهة التزييف
يشكل تجريم تمجيد الاستعمار ومعاقبة الخطابات التي تبرره آلية دفاع قانونية متقدمة ضد محاولات تزييف التاريخ أو إعادة إنتاج الخطاب الاستعماري، خاصة في الفضاءين الإعلامي والثقافي، بما يحصّن الوعي الجمعي للأمة الجزائرية .
● ورقة استراتيجية في المعركة الدبلوماسية
يُنظر إلى القانون كأداة استراتيجية تمكّن الجزائر من تثبيت روايتها التاريخية في المحافل الدولية، والانتقال من الدفاع العاطفي إلى المبادرة القانونية، في ظل النقاش العالمي حول الإرث الاستعماري وازدواجية المعايير الدولية .
● الذاكرة كضمان للمستقبل
يخلص الخبراء إلى أن تقنين الذاكرة الوطنية لا يعني استدعاء الماضي لعرقلة المستقبل، بل توظيفه لبناء دولة قوية بذاكرة محصنة، صون الهوية الوطنية، وتحقيق السلم المجتمعي، وتعزيز مكانة الجزائر كفاعل أخلاقي وسياسي في محيطها الإقليمي والدولي .
● تحديات كبيرة تنتظر القانون بعد المصادقة عليه
رغم الأهمية البالغة لمشروع قانون تجريم الاستعمار، تبرز مجموعة من التساؤلات حول أثره العملي ومستقبله: هل سيتمكن القانون فعليًا من ترجمة الموقف الجزائري في المحافل الدولية وفرض الاعتراف والاعتذار من فرنسا؟
وكيف ستتم حماية الذاكرة الوطنية في الممارسة اليومية، بعيدًا عن النصوص القانونية؟
إلى أي مدى سيساهم القانون في تعزيز الدور الجزائري كفاعل إقليمي ودولي، وهل سيبقى رمزيًا إذا غابت الآليات التنفيذية؟
وما هي الاستراتيجيات التي ستعتمدها الجزائر لمواجهة محاولات تبرير الاستعمار أو تمجيده مستقبلًا؟ هذه التساؤلات تشكل محور اهتمام الجميع، وتضع اختبارًا حقيقيًا لقدرة القانون على تحقيق العدالة التاريخية وحماية الذاكرة الوطنية.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة