آخر الأخبار

يتحدث بلسان روتايو .. لوران نونيز لم يحفظ الدرس

شارك
بواسطة محمد،قادري
صحفي جزائري مختص في الشأن السياسي الوطني و الدولي .
مصدر الصورة
الكاتب: محمد،قادري

يتحدث بلسان روتايو .. لوران نونيز لم يحفظ الدرس

الجزائرالٱن _ في تصريحات حديثة لصحيفة “جورنال دو ديمانش”، أماط وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز اللثام عن طبيعة المقاربة الفرنسية في التعامل مع الجزائر.

بلغة واضحة لا تحتمل التأويل، أعلن الوزير أن بلاده شرعت في مراجعة اتفاق 1968 الذي ينظم إقامة الجزائريين في فرنسا.

مؤكداً أن “الطرف الجزائري يجب أن يقبل الشروط التي يضعها الطرف الفرنسي ” لأن الأمر يتعلق بـ”مسألة أمنية “.

● الإعلان الأحادي

الصادم أنّ نونيز مع مباشرة مهامه على رأس وزارة الداخلية الفرنسية ظهر ديبلوماسيا وأكثر تفهما لطبيعة الأزمة مع الجزائر على عكس سلفه برونو روتايو.

إلا أنّ تصريحاته الأخيرة لم تكن مجرد إعلان على تعديل الاتفاق ، فعندما أكد الوزير أن مصالحه تعمل بالفعل على مراجعة اتفاقات 1968، بدا الأمر وكأنه قرار فرنسي منفرد لا يحتاج إلى تفاوض مع المعنيين بالأمر، رغم أن نونيز تحدث في نفس الوقت على تشاور مع الطرف الجزائري. هذه ليست لغة الشراكة، بل لغة الإملاء .

اتفاق 1968 معاهدة دولية ثنائية، وقعتها دولتان ذواتا سيادة. تعديل أي معاهدة دولية يتطلب بالضرورة موافقة الطرفين.

لكن الخطاب الفرنسي يتجاهل هذه البديهية القانونية، ويتعامل مع الاتفاق كما لو كان قراراً داخلياً فرنسياً يمكن تعديله متى شاءت باريس .

الأخطر هو الإطار الذي وضع فيه نونيز هذه المراجعة. تحدث عن السعي للوصول إلى “مواقف مشتركة حول كل هذه المواضيع “ ، لكن هذه العبارة تأتي بعد تأكيده أن الطرف الجزائري يجب أن “يقبل الشروط الفرنسية”.

أي “مواقف مشتركة” هذه التي تُبنى على القبول المسبق بما تمليه باريس؟

● منطق “يجب أن تقبل “

العبارة الأشد فضاحة في تصريحات نونيز هي قوله إن الجزائر “يجب أن تقبل” الشروط الفرنسية. هذه ليست دعوة للتفاوض، بل إنذار بالإذعان. “يجب” هنا لا تترك مجالاً للحوار أو النقاش، بل تفرض نتيجة محددة سلفاً: القبول .

هذا المنطق يلغي فكرة التفاوض من أساسها. التفاوض الحقيقي يقوم على افتراض أن لكل طرف مطالب ومصالح، وأن النتيجة النهائية ستكون توافقاً بين هذه المصالح المتباينة.

أما المقاربة الفرنسية، كما يعبر عنها نونيز، فتقوم على أن فرنسا تحدد الشروط، والجزائر مطالبة بالقبول .

صحيح أن الوزير حاول التخفيف من حدة خطابه بالقول إن “المتطلبات لا تمنع الاحترام المتبادل “ ، لكن هذه العبارة تكشف التناقض الصارخ في الموقف الفرنسي.

كيف يجتمع فرض الشروط مع الاحترام المتبادل؟ الاحترام المتبادل يعني الاعتراف بحق الطرف الآخر في رفض ما لا يناسبه، والاستعداد للتفاوض والتوافق. أما فرض الشروط فيعني العكس تماماً: علاقة غير متكافئة حيث يملي طرف إرادته على الآخر .

● المراجعة بدون تشاور

ما يزيد الموقف الفرنسي إشكالية هو سياقه. بعد تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية في 30 أكتوبر لصالح إلغاء الاتفاق، أشار رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو إلى أن باريس تريد مراجعة المعاهدة . الآن يأتي نونيز ليؤكد أن العمل على هذه المراجعة قد بدأ فعلياً .

لكن أين الجزائر من كل هذا؟ فرغم أنّ الوزير الفرنسي تحدث عن مشاوراته مع الجزائر إلا أنّ تجاهل تماما أي حديث عن المطالب الجزائرية أو عن نقاط خلاف يجري التفاوض بشأنها.

الخطاب الفرنسي يتعامل مع الأمر كقرار أحادي: فرنسا قررت المراجعة، فرنسا تحدد بنود المراجعة، فرنسا تشاورت مع الجزائر ولكن فرنسا لم تأخذ برأي الطرف الآخر، فقط على الجزائر القبول! .

هذه المقاربة تتجاهل حقيقة أساسية: الجزائر ليست طرفاً ثانوياً في هذا الملف. الاتفاق يتعلق بمئات الآلاف من الجزائريين المقيمين في فرنسا.

أي تعديل سيؤثر مباشرة على حقوقهم وأوضاعهم. للجزائر كدولة ذات سيادة الحق الكامل في رفض أي تعديل لا يحترم مصالح مواطنيها ولا يستجيب لمطالبها المشروعة .

● الأمن كذريعة للإملاء

نونيز يبرر موقفه بالقول إن الأمر يتعلق بـ”مسألة أمنية”. هذه الذريعة تُستخدم لإضفاء الشرعية على المقاربة الأحادية: طالما أن الأمن على المحك، فإن على الطرف الآخر أن يقبل ما تمليه باريس دون نقاش .

لكن الأمن ليس شأناً فرنسياً خالصاً. الجزائر أيضاً معنية بالأمن، وللجزائر تصورها الخاص حول كيفية تحقيق التعاون الأمني.

فرض التصور الفرنسي كحل وحيد، واعتبار أن الجزائر يجب أن “تقبل” لأن الأمر يتعلق بالأمن، هو منطق استعلائي يرفض الاعتراف بأن للطرف الآخر مصالح وتصورات مشروعة

الأمن، في العلاقات الدولية السليمة، يُبنى على التعاون المتوازن، لا على الإملاء. التعاون الأمني الحقيقي يتطلب ثقة متبادلة، واحتراماً متبادلاً، واستعداداً من الطرفين لتقديم تنازلات والأخذ والعطاء.

استخدام الأمن كذريعة لفرض الشروط يقوض أساس التعاون نفسه .

● الجدول الزمني للضغط

أعرب نونيز عن “ثقته” في أن تؤدي النقاشات إلى نتائج سريعة، قائلاً: “يجب أن ينتهي الأمر خلال الأسابيع المقبلة. أنا واثق “.

هذا التصريح يكشف عن بُعد آخر من أبعاد الضغط الفرنسي. وضع جدول زمني ضيق ليس تعبيراً عن إرادة لحل سريع، بل أداة ضغط إضافية على الجزائر .

الإيحاء بأن الأمر “يجب أن ينتهي” خلال أسابيع يعني أن فرنسا وضعت سقفاً زمنياً للجزائر: إما القبول سريعاً، وإما المواجهة. هذا ليس أسلوب من يريد التفاوض الجدي، بل أسلوب من يسعى لانتزاع تنازلات تحت ضغط الزمن .

التفاوض الحقيقي حول معاهدة دولية معقدة بأهمية اتفاق 1968 يتطلب وقتاً. يتطلب دراسة دقيقة للتداعيات القانونية والاجتماعية لأي تعديل.

يتطلب نقاشاً معمقاً حول المصالح المتباينة وكيفية التوفيق بينها. لكن الخطاب الفرنسي يتجاهل هذه الحاجة، ويضع جدولاً زمنياً ضيقاً لا يخدم إلا هدفاً واحداً: الضغط على الجزائر لقبول الشروط الفرنسية .

● غياب المقابل

اللافت في الخطاب الفرنسي هو غياب أي حديث عن مقابل. فرنسا تريد من الجزائر التعاون في إعادة قبول مواطنيها المبعدين، تريد تعديل اتفاق 1968 بما يخدم مصالحها، تريد تعاوناً أمنياً يلبي احتياجاتها. لكن ماذا تقدم فرنسا للجزائر في المقابل؟

الجزائر لديها مطالب واضحة من العلاقة مع فرنسا. معالجة جدية لملف الذاكرة، اعتراف رسمي بجرائم الاستعمار، إعادة الأرشيف الوطني المحتجز في باريس، وقف الخطاب العدائي من بعض السياسيين الفرنسيين، احترام الخيارات السيادية الجزائرية.

هذه مطالب مشروعة لدولة مستقلة ذات سيادة، لكنها غائبة تماماً عن الخطاب الفرنسي .

المقاربة الفرنسية تقوم على أن الجزائر يجب أن تقدم، وفرنسا تأخذ. هذا ليس تفاوضاً، بل علاقة استغلالية أحادية الجانب.

العلاقات الدولية السليمة تقوم على مبدأ المعاملة بالمثل: كل طرف يقدم شيئاً، ويحصل على شيء. أما المقاربة الفرنسية، كما تكشفها تصريحات نونيز، فتقوم على منطق الغنيمة الاستعمارية: فرنسا تحصل على ما تريد، والطرف الآخر يجب أن يقبل .

● التناقض مع الواقع

المفارقة في الموقف الفرنسي أنه يتناقض مع الواقع على الأرض. فرنسا في موقف احتياج فعلي للتعاون الجزائري. في ملف الأمن الإقليمي، في مكافحة الإرهاب، في ضبط تدفقات الهجرة، التعاون الجزائري حيوي للمصالح الفرنسية .

نونيز نفسه اعترف في تصريحات سابقة بأن انقطاع التعاون الأمني مع الجزائر يمثل “مشكلة كبيرة” لفرنسا.

أشار إلى أن “وفداً كان في الجزائر الأسبوع الماضي في إطار المناقشات حول زيارة نونيز للجزائر”، وهو ما يؤكد أن باريس تسعى فعلياً لاستئناف العلاقة .

لكن كيف يمكن استئناف التعاون بهذه اللغة؟ كيف تتوقع فرنسا أن تستجيب الجزائر لمطالبها، بينما الخطاب الفرنسي يقوم على الإملاء والإذعان؟

هذا التناقض يكشف عمق الأزمة في التصور الفرنسي: باريس محتاجة، لكنها تتحدث بلغة من لا يحتاج. تريد تعاوناً، لكنها تستخدم لغة الإملاء. تسعى لاستئناف الحوار، لكنها تفرض الشروط مسبقاً .

● ما لا تفهمه باريس

المشكلة الجوهرية في المقاربة الفرنسية أنها تنبني على افتراض خاطئ: أن الجزائر ستنحني في النهاية أمام الضغوط الفرنسية. هذا الافتراض يتجاهل الواقع السياسي والنفسي للجزائر .

الجزائر دفعت ثمناً باهظاً لاستقلالها، ثمن مليون ونصف المليون شهيد. هذه التضحية الهائلة خلقت ذاكرة جماعية قوية حول قيمة السيادة والكرامة الوطنية. أي محاولة لفرض شروط من طرف واحد، خاصة من فرنسا، تصطدم بهذه الذاكرة وتجعل القبول مستحيلاً سياسياً .

باريس تظن أن بإمكانها استخدام أوراق الضغط المتاحة لها لانتزاع تنازلات جزائرية. لكن التجربة أثبتت أن هذه المقاربة تأتي بنتائج عكسية.

كلما زاد الضغط الفرنسي، كلما تصلب الموقف الجزائري. العلاقة بين الضغط والاستجابة ليست خطية، وفرنسا تكتشف هذا على حساب مصالحها الخاصة .

الأكيد، أنّ تصريحات وزير الداخلية الفرنسي حول تعديل اتفاق 1968 تكشف بوضوح عن استمرار مقاربة قائمة على الإملاء والضغط، لا على التشاور والتفاوض.

الحديث عن أن الجزائر “يجب أن تقبل” الشروط الفرنسية يلغي فكرة الشراكة، ويعيد العلاقة إلى منطق الهيمنة الاستعمارية .

هذه المقاربة الأحادية محكوم عليها بالفشل. الجزائر ليست في موقف يسمح لفرنسا بفرض إرادتها، ولن تقبل بدور المنفذ للقرارات الفرنسية.

التاريخ علّم الجزائريين أن السيادة لا تُساوم عليها، وأن الكرامة الوطنية أغلى من أي مصلحة ظرفية .

المطلوب ليس “قبولاً” جزائرياً بشروط فرنسية، بل تفاوضاً حقيقياً يحترم سيادة الطرفين ومصالحهما. تفاوض يبحث عن توافق، لا إملاء يفرض إذعاناً. علاقة قائمة على الندية، لا على التبعية.

هذا ما تحتاجه العلاقة الفرنسية-الجزائرية، لكنه يتطلب من باريس ثورة على تصوراتها المتجذرة. والسؤال هو: هل فرنسا مستعدة لهذا التحول، أم ستستمر في مقاربة أثبتت فشلها على مدى السنوات؟

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا