● مؤسسات الدولة المالية على وشك الانهيار.. خبراء: لا بديل أمام باماكو سوى العودة إلى اتفاق الجزائر
الجزائر الآن _ تعيش منطقة الساحل الإفريقي مرحلة غليان غير مسبوقة، تتقاطع فيها الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية في مشهد يعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي والدولي.
وفي قلب هذا الاضطراب، تبرز الأزمة المالية بوصفها النموذج الأكثر تعبيرًا عن فشل المقاربات العسكرية وغياب الحلول السياسية الشاملة.
وبين سيناريو انهيار مؤسسات الدولة وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة، يؤكد العارفون بخبايا المنطقة بأنه لا حل للأزمة المالية إلا بالعودة المقاربة الجزائرية و استعادة موقعها الطبيعي كوسيط نزيه لا غنى عنه، بحكم تاريخها، وجغرافيتها، ورصيدها الدبلوماسي الممتد.
فبحسب ذات العارفين ،يُعد إلغاء اتفاق الجزائر للسلام في يناير 2024 من طرف المجلس العسكري الانقلابي في باماكو أحد أبرز التحولات الاستراتيجية في الأزمة المالية، إذ أنهى فعليًا ثماني سنوات من الجهود الدبلوماسية الجزائرية التي رعت الاتفاق بين الحكومة المالية وحركات الطوارق.
ومع اتساع رقعة المواجهات المسلحة في شمال البلاد ووسطها، تبرز محدودية المقاربة الأمنية التي اعتمدتها السلطات العسكرية في باماكو، إذ لم تعد المعالجة العسكرية كافية لاحتواء الانهيار المتسارع.
تحوّل المشهد في باماكو إلى مرآة تعكس عمق الاضطراب السياسي والاجتماعي والأمني الذي تعيشه مالي، حيث يتقاطع الأمني بالاقتصادي، ويتشابك السياسي بالاجتماعي، في حلقة معقدة من الأزمات المتداخلة التي تجاوزت حدود الدولة لتشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار منطقة الساحل بأكملها.
في خضم هذا الانهيار، دعت السفارة الأميركية في باماكو جميع مواطنيها إلى مغادرة البلاد “دون تأخير”، مشيرة إلى أن التنقل برًّا نحو الدول المجاورة “غير آمن” بسبب تصاعد الهجمات المسلحة، مؤكدة محدودية قدرتها على تقديم المساعدة القنصلية خارج العاصمة في ظل تدهور الأوضاع المعيشية.
وتشير تقديرات أمنية إلى أن دائرة المواجهات اتسعت لتشمل مناطق قريبة من العاصمة، في ظل تصاعد نشاط الجماعات المسلحة، ما جعل البلاد أمام مشهد مفتوح على احتمالات الانفجار.
● د. إسماعيل خلف الله: العودة إلى اتفاق الجزائر هي الحل الوحيد
أكد الخبير الإستراتيجي الدكتور إسماعيل خلف الله لـ”الجزائر الآن” أن ما يحدث في مالي من أزمة أمنية واجتماعية حادة هو نتيجة واضحة لانقلاب المجلس العسكري على اتفاق الجزائر، الذي وصفه بأنه “وثيقة مرجعية أرست أرضية سلام وتوازن بين السلطة والثروة”.
وأوضح أن أصل الأزمة سياسي بالدرجة الأولى، وأن ما تعيشه مالي من انقسام وبؤس اجتماعي هو نتيجة مباشرة لتنصل باماكو من الاتفاق الذي أنهى حربًا أهلية استمرت قرابة سبع سنوات.
وأضاف أن الاتفاق الذي رعته الجزائر بصدق وإخلاص أسس لمسار تصالحي يهدف إلى بناء مؤسسات شرعية وديمقراطية منبثقة من الإرادة الشعبية، وأن الخروج عنه قاد البلاد إلى الفوضى والانهيار.
● انهيار الدولة نتيجة التنصل من اتفاق الجزائر
يرى خلف الله أن ما تشهده مالي اليوم من تفكك مؤسسات الدولة وفقدان القدرة على التحكم في الوضع الأمني يمثل دلالة واضحة على انهيار أركان الحكم، مؤكدًا أن أي حل لن ينجح دون العودة إلى اتفاق الجزائر الذي أثبت نجاعته على مدار سبع سنوات من السلم الأهلي.
وشدّد على أن الجزائر كانت وما زالت صادقة في تعاملها مع الملف المالي، إذ احتضنت الاتفاق من منطلق حرصها الصادق على استقرار مالي والشعب المالي الشقيق.
● استبدال التدخل الأجنبي… فشل في معالجة جوهر الأزمة
أبرز خلف الله أن استبدال القوات الفرنسية بمجموعات “فاغنر” الروسية ثم لاحقًا بـ”الفيلق الروسي” لم يغيّر جوهر الأزمة، بل مثّل استبدال قوة أجنبية بأخرى.
وأكد أن الجزائر كانت واضحة منذ البداية في رفضها لأي وجود عسكري أجنبي في المنطقة، رغم علاقاتها الإستراتيجية مع موسكو، مشددًا على أن الحل في مالي يجب أن يكون إفريقيًا – ماليًا خالصًا.
● انعكاسات الأزمة على الأمن القومي الجزائري
أوضح خلف الله أن تدهور الوضع الأمني في مالي ينعكس مباشرة على الأمن القومي الجزائري نظرًا لطول الحدود المشتركة، ما يزيد من المسؤوليات الأمنية على عاتق وحدات الجيش الوطني الشعبي المرابطة في الجنوب، لمواجهة تهديدات الإرهاب والجريمة المنظمة.
● الجزائر… الوسيط النزيه والحل الذي لا بديل عنه
واعتبر أن محاولات تهميش الجزائر لن تؤدي إلا إلى تأزيم الوضع أكثر، مؤكدًا أن الحل يكمن في عودة الجزائر لرعاية المصالحة بين الأطراف المالية لأنها الجار الموثوق والوحيد القادر على إعادة بناء الثقة.
وأضاف أن القوى التي حاولت الحلول محل الجزائر فشلت، لأن مفتاح الأزمة بيد الجزائر وحدها، داعيًا إلى العودة لوساطتها من أجل انتخابات شرعية وديمقراطية تنبثق من إرادة الشعب المالي.
● الأزمة المالية تتعمق وتحول البلاد إلى بؤرة توتر إقليمي
تتجاوز الأزمة في مالي حدود الصراع الداخلي لتجسّد انهيارًا بنيويًا في مؤسسات الدولة وتراجعًا في قدرتها على فرض سيادتها، مما جعلها ساحة مفتوحة لتشابك المصالح الإقليمية والدولية.
تعيش مالي مرحلة انهيار سياسي ومؤسساتي غير مسبوق بعد سلسلة الانقلابات التي أطاحت بما تبقى من استقرارها.
وداخل المجلس العسكري، تتفاقم الانقسامات بين أجنحة متصارعة على النفوذ، ما زاد من هشاشة الوضع العام، في وقت تتصاعد فيه النزاعات العرقية والتوترات المحلية.
كما شلّت أزمة الوقود والطاقة القطاعات الحيوية، وتوقفت مؤسسات تعليمية وخدماتية، مما كشف هشاشة البنية الاقتصادية واللوجيستية للدولة.
ومع تراجع الخدمات وارتفاع البطالة والفقر، تآكلت شرعية السلطة الانتقالية.
على الصعيد الأمني، توسعت رقعة الصراع لتشمل مناطق قريبة من العاصمة باماكو، حيث استهدفت هجمات مواقع اقتصادية، في مؤشر على تراجع سيطرة الدولة.
ويرى المراقبون أن الجماعات المتطرفة نجحت في ملء الفراغ الأمني بعد انسحاب القوات الدولية، مما يجعل استعادة السيطرة أمرًا بالغ الصعوبة.
وبالتالي ،الأزمة في مالي أصبحت تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الجزائري، الذي فرض رفع حالة التأهب وإعادة الانتشار في الجنوب لتأمين الحدود الاستراتيجية.
● الجزائر… ثبات الموقف ومسؤولية الوساطة
منذ اندلاع الأزمة، حافظت الجزائر على موقفها الثابت الرافض للانقلابات العسكرية.
وأكد الرئيس عبد المجيد تبون أن الحل لا يمكن أن يكون إلا وفق المقاربة الجزائرية القائمة على تسليم السلطة لمدنيين خلال مرحلة انتقالية محددة، باعتبار أن إطالة المراحل الانتقالية تعمّق الفوضى.
ورغم التوترات الثنائية، شدّد تبون على أن الجزائر لا تفرض نفسها على أحد لكنها لن تتخلى عن أشقائها في مالي، مشيرًا إلى أن الجزائر ترفض منطق الإملاءات والقوة، وتؤمن بالحوار والتسوية التوافقية.
أما عن الحضور الروسي في مالي، فقد رفضت الجزائر وجود مرتزقة “فاغنر” أو “الفيلق الإفريقي” قرب حدودها رغم شراكتها الإستراتيجية مع موسكو، إدراكًا منها لخطورة عسكرة الأزمات في الساحل.
من هذا المنطلق، تواصل الجزائر تبني موقف متزن يقوم على احترام السيادة الوطنية ورفض التدخلات الأجنبية، مع دعم الحلول السلمية التي تراعي خصوصيات المنطقة وتوازناتها.
● أمن الجزائر في عمق الساحل
فشل الجيش المالي في القضاء على الجماعات المتشددة كشف عن خلل عميق في رؤيته الاستراتيجية، وفتح الباب أمام تدخلات أجنبية جديدة حولت مالي إلى ساحة تنافس دولي.
التوترات الأخيرة أدت إلى تعليق جزئي لحركة النقل التجاري بين الجزائر ومالي، خاصة عبر محور تمنراست–غاو، ما أضر بتجارة المقايضة التي كانت تزوّد الأسواق المالية بالمنتجات الجزائرية.
ويرى خبراء أن الأزمة قد تدفع الجزائر إلى إعادة توجيه استراتيجيتها الإفريقية نحو محور أكثر أمانًا يمتد من موريتانيا إلى نيجيريا، مستفيدة من مشروع طريق تندوف–الزويرات لتأمين منفذ بديل للتجارة جنوب الصحراء.
في المحصلة، تواجه الجزائر تحديًا مزدوجًا: حماية أمنها الوطني واستمرار دورها كوسيط مسؤول في منطقة مضطربة.
فبين تصاعد التنافس الروسي–الغربي على الساحل، وانكفاء الأنظمة العسكرية، تبقى الجزائر تعتمد على مقاربة إستراتيجية متكاملة تقوم على دعم الحلول السياسية، وحماية مصالحها الاقتصادية، وإعادة بناء الثقة مع الأطراف المالية لاستعادة الزخم الدبلوماسي لاتفاق الجزائر.
فأمن الجزائر يبدأ من وراء حدودها، واستقرارها لا ينفصل عن مستقبل مالي والمنطقة بأسرها.
 المصدر:
        
             الجزائر الآن
    
    
        المصدر:
        
             الجزائر الآن
        
    
 مصدر الصورة
 
   مصدر الصورة