مقال رأي | زمور وسرقة متحف اللوفر: حين تتحول الجريمة إلى ذريعة للكراهية
الجزائرالٱن _ من جديد، يخرج إريك زمور، زعيم حزب “الاسترداد” الفرنسي اليميني المتطرف، بخطاب مشحون بالكراهية والعنصرية، بعد أن وجد في حادثة سرقة مجوهرات من متحف اللوفر فرصة لتجديد حملته ضد المهاجرين، ولا سيما الجزائريين منهم. ففي تعليقٍ على توقيف شخصين يشتبه في ضلوعهما في العملية، أحدهما من أصول جزائرية والآخر من أصول مالية، كتب زمور منشورًا على منصة “إكس” قال فيه: “ها هي الجزائر تدخل المشهد في سرقة متحف اللوفر! الهجرة تسرق مجوهرات التاج الفرنسي، وباختصار، تسرق حضارتنا. إنه الجهاد اليومي.” وفي مقابلة مع قناة “فرانس 3”، مضى أبعد من ذلك حين اعتبر أن ما حدث “تجسيد لاحتلال يومي لفرنسا من قبل المهاجرين”، رابطًا بين هذه الحادثة وبين جرائم أخرى ليؤكد نظريته القديمة عن “نهب الحضارة الفرنسية”.
لكن وراء هذا الخطاب المتشنج يختبئ منطق سياسي مريض، يحاول أن يحوّل حادثًا جنائيًا معزولًا إلى قضية هوية وطنية. فالقضية التي يتحدث عنها زمور، في جوهرها، عملية سرقة محدودة نفذها أشخاص خارجين عن القانون، وقد تعاملت معها السلطات الأمنية الفرنسية كما تتعامل مع أي جريمة مشابهة. ومع ذلك، يصرّ زمور على تحويلها إلى سلاح في معركته ضد المهاجرين، في استغلال مكشوف للأحداث من أجل تغذية مشاعر الخوف والانقسام داخل المجتمع الفرنسي. فالمهاجرون الذين يتهمهم اليوم بـ“سرقة التاج الفرنسي” هم أنفسهم من يساهمون منذ عقود في بناء الاقتصاد الفرنسي، في المصانع والمستشفيات والورشات، وهم الذين أعادوا إعمار فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، يختار زمور أن يرى فيهم تهديدًا بدل أن يعترف بدورهم في صنع نهضتها المعاصرة.
بين الأصل المنكَر والعقدة التاريخية
ما يزيد من غرابة هذا الخطاب أن صاحبه نفسه من أصول مهاجرة. فإريك زمور ينحدر من عائلة يهودية جزائرية استقرت في فرنسا خلال خمسينيات القرن الماضي بعد استقلال الجزائر، أي أنه ينتمي إلى أولئك الذين حملوا الجنسية الفرنسية بفضل الحقبة الاستعمارية، لكنه نسي جذوره تمامًا وتحول إلى أحد أكثر من يهاجمون المهاجرين والمسلمين والعرب. إن ما يفعله زمور هو نوع من الإسقاط النفسي: يحاول أن يتبرأ من أصله، وأن يثبت “فرنسيته” المزعومة عبر كراهية من يشبهونه. هذا الرفض للذات هو ما يجعل خطابه متناقضًا ومليئًا بالمرارة، إذ يدّعي الدفاع عن هوية فرنسا “المسيحية”، بينما هو نفسه نتاج لفرنسا الاستعمارية التي هجّرت أجداده من أرضٍ عربية مسلمة.
وقد بنى زمور مسيرته الإعلامية والسياسية على هذا النفي المستمر للانتماء، فانتقل من صحفي في “لوفيغارو” إلى نجم في البرامج الجدلية، ثم إلى زعيم سياسي يقتات على الخوف من الآخر. لكن خلف هذه الصورة “المثقفة” يقف فكر إقصائي متطرف لا يختلف كثيرًا عن خطاب الحركات العنصرية في أوروبا الثلاثينيات. فزمور لا يخفي إعجابه بالمارشال بيتان، الذي تعاون مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، كما يعتبر أن ما يسميه “الاستبدال الكبير” مؤامرة لطمس الهوية الفرنسية عبر الهجرة الإسلامية. إنها عقيدة قائمة على الخوف من الانقراض، يُقدّمها زمور بلبوس فكري زائف، لكنها في الحقيقة ليست سوى خطاب كراهية ممنهج.
تاريخ من الإدانة والتحريض
لا يتوقف سجل زمور عند الكلام، بل يشهد عليه القضاء الفرنسي. فقد أُدين عدة مرات بتهم تتعلق بالتحريض على الكراهية العنصرية والإساءة للمسلمين والمهاجرين، منها حكم صدر سنة 2011 بعد تصريحاته التي زعم فيها أن “معظم تجار المخدرات سود أو عرب”، وآخر سنة 2022 عندما دعا إلى “ترحيل القاصرين الأجانب غير المرافقين” ووصفهم بأنهم “سارقون ومغتصبون وقتلة”. ورغم هذه الإدانات، واصل زمور خطابَه المسموم بلا خجل، مستغلاً الثغرات في حرية التعبير لترويج أفكاره المتطرفة. حتى خلال حملته الانتخابية للرئاسيات الفرنسية سنة 2022، اعتمد على إثارة مشاعر الكراهية والخوف من المسلمين كورقة انتخابية، غير أن الناخب الفرنسي أدرك الطابع الشعبوي والانعزالي لمشروعه، فخرج من السباق مهزومًا، تاركًا خلفه تيارًا صغيرًا يعيش على أوهام “الاسترداد” ورفض التعددية.
فرنسا التي يريدها زمور… فرنسا بلا روح
إن خطاب زمور ليس مجرد انزلاق سياسي، بل محاولة لطمس القيم التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية نفسها: المساواة، والحرية، والأخوّة. فحين يصوّر المهاجرين على أنهم خطر وجودي، فإنه يعيد إنتاج منطق استعماري قديم يرى في “الآخر” مادة للاستغلال أو سببًا للتهديد. والمفارقة أن زمور يدّعي الدفاع عن “الحضارة الفرنسية”، بينما يتنكر لأبسط مبادئها الإنسانية، ويحوّل مأساة الجريمة إلى منصة لترويج الكراهية.
ولأن التاريخ لا يغفر لمن يزوّره، فإن فرنسا التي يحنّ إليها زمور ليست فرنسا الحقيقية، بل فرنسا خيالية، مغلقة على ذاتها، تخاف من تنوعها، وتعيش في ظل عقدة الماضي الإمبراطوري. أما فرنسا الحقيقية فهي التي استقبلت الشعوب، واحتضنت الإبداع من كل اللغات والأديان، وبنت مجدها بتعددها لا بنقائها العرقي.
إن تصريحات زمور الأخيرة بعد حادثة متحف اللوفر ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من الكراهية السياسية، لكنها تكشف في الوقت ذاته عن عجزه عن تقديم أي مشروع واقعي أو أخلاقي لفرنسا. فهو لا يعرف كيف ينهض بها إلا عبر إقصاء الآخرين. أما “المجوهرات” التي يدّعي أن المهاجرين سرقوها، فهي في الحقيقة القيم التي يسرقها هو من ذاكرة بلاده كل يوم: قيم العدالة والإنسانية والتعايش.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة