المرزوقي.. “ثائر بلا قضية” يحلم بإشعال تونس من جديد
يبدو أن الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي لم يتعلم شيئًا من تجارب السنين، فهو ما يزال أسير خطاب “الثورة الدائمة” الذي جعل منه في مرحلة ما رمزًا إعلاميًا عابرًا، قبل أن تفضحه الممارسة في أول احتكاك حقيقي بالسلطة.
اليوم، وبعد أن أصبحت تونس تواجه تحديات اقتصادية وبيئية واجتماعية معقدة، يعود الرجل ليطل من على صفحاته في “فيسبوك” بخطاب تحريضي، يدعو فيه ما سماه “جيل زد” إلى التحرك لإسقاط النظام. وهو نفس الأسلوب الذي استعمله في سنوات ما بعد 2011، حين راهن على عواطف الشارع بدل بناء دولة مؤسسات قوية.
تحريض تحت غطاء البيئة
اختار المرزوقي هذه المرة أن يستغل احتجاجات مدينة قابس ضد المجمع الكيميائي ليقدّم نفسه كصوت الضمير الغائب، ناسياً أنه هو نفسه كان على رأس الدولة عندما طُرحت قضية “التلوث الصناعي”، وأنه لم يقدّم في الموضوع سوى تصريحات إنشائية.
في منشوره الأخير، حاول تبرئة نفسه قائلاً إن “الدستور لم يمنحه صلاحيات اقتصادية”، لكن الحقيقة أن الرجل لم يكن بحاجة إلى الدستور ليكون فاعلاً، بل إلى إرادة سياسية وشجاعة قرار. فكم من مبادرة بيئية أو اجتماعية أطلقها؟ لا شيء يُذكر. أما اليوم، وبعد عقد من الغياب، يريد أن يظهر في ثوب المنقذ!
ازدواجية الخطاب وتناقض المواقف
اللافت أن المرزوقي لا يكتفي بالحديث عن تونس، بل يتجاوزها إلى التحريض على تغيير الأنظمة في الجزائر ومصر، وكأنه متحدث رسمي باسم محور الخراب العربي.
لكنّ الغريب في الأمر أنه حين يتحدث عن المغرب، يتحول إلى شخصية مسالمة تدعو إلى “الإصلاح فقط”. أي مفارقة هذه؟ هل الفوضى حلال في تونس وحرام في الرباط؟
الجواب واضح لكل من يعرف الخلفيات السياسية للرجل وعلاقاته القديمة مع دوائر إعلامية وأكاديمية مقربة من المخزن المغربي، التي لطالما استعملته كورقة دعائية لتبرير “الاستثناء المغربي” مقابل “الفوضى التونسية”.
من خطاب الثورة إلى خدمة الأجندات
من يتأمل مسار المرزوقي يدرك أن الرجل لم يعد معنيًا بتونس كدولة أو كمجتمع، بل كمنبر يعيد من خلاله تسويق نفسه في الخارج. هو باختصار “سياسي مُستهلك” يحاول الحفاظ على صورته عبر إثارة الضجيج، ولو على حساب استقرار وطنه.
دعواته الأخيرة ليست سوى نسخة مكررة من خطابات “الفوضى الخلاقة” التي روجت لها بعض القوى الإقليمية سنة 2011، والتي حوّلت الربيع العربي إلى كابوس طويل. تونس التي أنهكتها الأزمات لا تحتاج اليوم إلى من يوقظ أشباح الماضي، بل إلى من يبني الثقة بين الدولة والمجتمع.
فشل في الحكم.. وعودة عبر الفوضى
تجربة المرزوقي في الحكم كانت كافية لتكشف هشاشة خطابه الثوري. فالرجل لم يقدّم مشروعًا وطنيًا، ولم يستطع أن يجمع التونسيين حول رؤية موحدة، بل ترك خلفه انقسامات سياسية ومؤسسات ضعيفة.
ولأن الفاشل لا يعيش إلا في ظلّ الصراع، عاد المرزوقي اليوم ليحرض الشارع ويغازل الشباب بشعارات لم تعد تقنع أحدًا. يتحدث عن “نموذج نيبال” وكأنه يجهل أن كل مجتمع له سياقه، وأن تونس ليست ساحة لتجارب سياسية مستوردة من آسيا أو من غرف المخابر الغربية.
المرزوقي والمخزن.. التقاء المصالح
حين يطالب المرزوقي بتغيير النظام في تونس والجزائر ومصر، ويغض الطرف عن أوضاع المغرب، فإنه لا يعبّر عن قناعة فكرية، بل عن ولاء سياسي واضح.
الخطاب الذي يروّج له اليوم يخدم – بوعي أو بدونه – أجندة المخزن، التي تقوم على مبدأ “كلما ضعف الجيران، ارتاح المغرب”.
إنه منطق معروف: زرع الشك في شرعية المؤسسات، تغذية الغضب الشعبي، ثم تقديم “الاستقرار المغربي” كنموذج بديل. والمرزوقي في هذا السيناريو ليس أكثر من أداة، تُستعمل لتصدير الفوضى في لحظة إقليمية دقيقة.
تونس ليست ملعبًا للمغامرين
ما ينساه المرزوقي هو أن تونس تغيّرت، وأن الشعب التونسي الذي خبر الفوضى لن يسمح بعودة الخطاب العبثي تحت غطاء الثورة. فالثورة الحقيقية اليوم هي إصلاح الاقتصاد، إنعاش التنمية، وحماية السيادة الوطنية من الأصوات التي تقتات من الأزمات.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه تونس اليوم ليس الفقر ولا التلوث، بل سياسيون من طينة المرزوقي، يرون في كل أزمة فرصة للعودة إلى الأضواء.
منصف المرزوقي لا يتحدث باسم تونس، بل باسم مشروع فقد شرعيته منذ أن تحول “الربيع” إلى رماد. هو رجل فقد توازنه السياسي، ويريد أن يجرّ بلاده معه إلى الفوضى.
وإذا كان قد نسي، فعليه أن يتذكر أن الشعوب التي دفعت ثمن المغامرات السياسية لم تعد تنخدع بخطاب “الثوار بالنيابة”. تونس اليوم تحتاج إلى عقلاء يبنونها، لا إلى حالمين يهدّمونها من وراء الشاشات ومواقع التواصل.