آخر الأخبار

ملف خاص | من التلميذ إلى المواطن : الجزائر تعيد رسم حدود الأمن التربوي و الاجتماعي

شارك
صحفية جزائرية مختصة في الشأن الوطني والتربوي و المجتمع
مصدر الصورة
الكاتب: نسيمة بن عيسى

* مسألة بيداغوجية فحسب، بل باتت خيارًا استراتيجيًا تفرضه الحاجة إلى حماية رأس المال البشري الوطني من التفكك والضياع.

الجزائر الآن _ في خطوة تُجسّد الوعي المتنامي بمخاطر التفكك الاجتماعي وتهديدات الانحراف داخل البيئة المدرسية، تُواصل وزارة التربية الوطنية الجزائرية تنفيذ استراتيجية شاملة تهدف إلى حماية التلاميذ من السقوط في مستنقع السلوكيات الخطيرة، من خلال إعادة إدماج التلاميذ المنقطعين والمطرودين عن الدراسة، عبر مسارات تربوية مدروسة ومدعومة بإرادة سياسية قوية.

ففي ظل تصاعد التحذيرات من “ الثلاثي القاتل” ـ كما سماه الوزير محمد صغير سعداوي ـ المتمثل في إدمان الشاشات، المخدرات، والعنف، جاء اللقاء الأخير الذي جمعه بمديري التربية ليحمل تعليمات واضحة تؤكد أن إعادة التلاميذ إلى الوسط المدرسي لم تعد مسألة بيداغوجية فحسب، بل باتت خيارًا استراتيجيًا تفرضه الحاجة إلى حماية رأس المال البشري الوطني من التفكك والضياع.

مصدر الصورة

الوزير شدّد خلال اللقاء على أن المدرسة ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي في جوهرها أداة حماية اجتماعية ونفسية واقتصادية، تؤدي دورها ضمن شبكة مؤسسات الدولة التي تتقاطع مسؤولياتها في حماية الطفولة وضمان الأمن الإنساني.

وتكشف تقارير ميدانية وتصريحات رسمية متواترة عن تفاقم بعض الظواهر السلبية وسط التلاميذ، ما يستدعي إعادة النظر في موقع المدرسة ضمن السياسات العمومية، وتعزيز موقعها في قلب المنظومة الوقائية للدولة.

فكل تلميذ خارج مقاعد الدراسة هو مواطن محتمل في خطر، عرضة للتجنيد في شبكات الجريمة أو التطرف أو الإدمان الرقمي، في ظل غياب التأطير التربوي.

من هذا المنطلق، تُدرَك المدرسة باعتبارها “مساحة آمنة” ورافعة استراتيجية للتنمية البشرية، حيث يتلقى التلميذ التربية النفسية والاجتماعية، إضافة إلى المعارف العلمية.

وضمن هذه الرؤية، بادرت الوزارة إلى تفعيل مخططات الدعم البيداغوجي، والتكفل النفسي والاجتماعي بالتلاميذ العائدين، وإشراك المستشارين النفسيين داخل المؤسسات لضمان اندماج تدريجي وفعّال.

مصدر الصورة


* “ثلاثي قاتل” يُهدد الأمن التربوي.. والردّ بمقاربة حكومية متكاملة

تحذيرات الوزير من تغلغل الإفراط في استخدام الشاشات، وتعاطي المخدرات، والعنف الأسري أو المدرسي، تُعد مؤشرًا على اعتراف صريح بخطورة الأزمة، ودعوة لإعادة بناء المنظومة التربوية وفق مقاربات متعددة الأبعاد: أمنية، صحية، اجتماعية، وتربوية.

وقد أكّد الوزير أن كل تلميذ خارج الفضاء المدرسي يعيش في منطقة “خطر صامت”، قد تكون بدايتها تجربة مؤقتة، لكن نتائجها قد تكون كارثية على المدى البعيد، سواء من حيث السلوك أو المصير الدراسي والاجتماعي.

من هذا المنطلق، شدّد الوزير على أن إعادة إدماج التلميذ هو حماية من الاستغلال، الإدمان، الابتزاز الرقمي، أو حتى السقوط في فخ الجريمة المنظمة، داعيًا إلى وضع مصلحة التلميذ فوق أي اعتبار إداري أو إجرائي، عبر مرافقته في كل مرحلة من مراحل العودة إلى الفضاء التربوي.

وفي سياق تعزيز هذه المقاربة الوقائية، تسهر مصالح التربية بالتعاون مع شركائها، على توفير بيئة محفزة تضمن للتلميذ العودة بثقة، من خلال برامج دعم، أنشطة مرافقة، وتكوين خاص للطاقم الإداري والبيداغوجي، بما يراعي الأوضاع الخاصة للمنقطعين والمفصولين.

مصدر الصورة


* المدرسة في قلب الأمن المجتمعي

وفي تفاعل مع هذه الجهود، ثمّنت رئيسة الجمعية الوطنية للصحة المدرسية، الدكتورة بسام نبيلة، هذه القرارات واعتبرتها جزءًا من “سياسة إنقاذية” في مرحلة تُهدد فيها المؤثرات الخارجية التلميذ حتى داخل محفظته، مستشهدة بظاهرة “تراند الباراسيتامول”، وسوء استخدام بعض الأدوية.

كما دعت إلى تعزيز دور الأولياء والأساتذة، خاصة في الطور الابتدائي، عبر برامج تواصل داخل الأسرة تُغرس فيها الثقة بين الطفل ووالديه، والحوار التربوي كأداة استباقية ضد الانحراف، مطالبة بدعم نفسي منتظم للأطفال الذين يعانون من هشاشة أسرية.

وشددت المتحدثة على أن “الصحة النفسية للتلميذ مسؤولية جماعية”، تبدأ من العائلة، وتشمل المدرسة، الأئمة، المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، لأن حماية الأجيال ليست مجرد مهمة قطاعية، بل مشروع وطني يتطلب تعبئة مجتمعية شاملة.


* الاتحاد الوطني لأولياء التلاميذ يدق ناقوس الخطر: لا يكفي أن تطعموا أبناءكم.. اسمعوهم
*

من جهته، وجّه الاتحاد الوطني لأولياء التلاميذ، برئاسة سعدي حمدي، نداءً مستعجلًا للأسر، دعا فيه إلى استرجاع موقع الأسرة كحضن نفسي واجتماعي، محذرًا من نتائج “الإهمال العاطفي” والتفكك الأسري على التوازن السلوكي للأطفال.

الاتحاد أشار إلى أن قضايا خطيرة تم تسجيلها في بعض المؤسسات، بعضها أحيل على القضاء، ما يدل على تحوّل السلوكيات المنحرفة إلى ظاهرة تستدعي الإنذار، لا التستر.

وأضاف الاتحاد أن الطفل الذي لا يجد من يستمع إليه في البيت، سيلجأ إلى الشارع أو العالم الرقمي غير المراقب، وقد يجد ضالته في رفقة السوء، مشددًا على أن بناء جسور الثقة داخل الأسرة هو “تحصين استراتيجي للأمن التربوي والاجتماعي”.


* حادثة أم البواقي.. طفل ابتدائي يُجبر زملاءه على التدخين: ناقوس خطر حقيقي

وتجلّت خطورة هذا المسار في حادثة صادمة بولاية أم البواقي، حيث تم ضبط تلميذ في السنة الثالثة ابتدائي يحمل سجائر صغيرة، تبيّن أنها وُزّعت من طرف زميل له في السنة الخامسة، الذي مارس عليه وعلى زملائه نوعًا من التهديد.

هذه الحادثة، التي تبنّى الاتحاد الوطني لأولياء التلاميذ متابعتها، تُظهر بوضوح حجم الهشاشة التي يعيشها الوسط المدرسي، والحاجة إلى تدخل عاجل لاحتواء الظواهر المنحرفة قبل أن تتحوّل إلى بنية داخل المؤسسات.

وقد دعت التنسيقية الأولياء إلى الحوار والمراقبة، واعتبار المدرسة امتدادًا للبيت، لا منطقة منفصلة عن الرقابة الأسرية، مؤكدة أن أول خطوط الدفاع ضد الانحراف هو الاستماع، ثم التدخل المبكر، وليس العقاب بعد فوات الأوان.


* الدولة تتحرك: فحوص دورية وتحاليل وقائية للكشف عن التعاطي داخل المدارس

مصدر الصورة

وفي إطار تحول نوعي في السياسة العمومية لمكافحة المخدرات، اعتمدت الحكومة الجزائرية تعديلات جوهرية في القانون رقم 25-03، تُرسّخ البعد الوقائي داخل المؤسسات التربوية.

فبموجب المادة 5 مكرر 10 من القانون الجديد، سُمح بإجراء تحاليل طبية دورية للكشف المبكر عن تعاطي المؤثرات العقلية داخل المدارس، بشروط قانونية صارمة تحمي كرامة التلميذ، وتمنع استعمال النتائج لأغراض عقابية أو قضائية.

الوزير أكد أن هذه الإجراءات تهدف إلى الوقاية، لا العقاب، وكشف عن حالات لتلاميذ بادروا بالتبليغ عن حيازتهم لمؤثرات، مما يعكس ثقة متبادلة بين التلميذ والمدرسة، يجب تعزيزها.


* عدالة وقائية.. ومجتمع متضامن

وشهدت محكمة أدرار يومًا دراسيًا حول القانون الجديد، حضرته الجهات القضائية، الأمنية، الصحية، والتربوية، شدد خلاله المشاركون على ضرورة إشراك القضاء في المقاربة الوقائية لا الزجرية فقط، داعين إلى تنظيم أيام تحسيسية دورية عبر المؤسسات التربوية بالتنسيق مع النيابات العامة، المجالس القضائية، والجمعيات النشطة في مجال الوقاية من الإدمان، مع التأكيد على إدراج برامج توعوية رسمية في المناهج التربوية، تواكب التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها التلميذ في عصر الانفتاح الرقمي والضغوط النفسية.

القانون الجديد لم يكتفِ بتشديد العقوبات على المتاجرين والمروّجين، خاصة إذا كان الضحايا من القُصّر أو داخل محيط المدرسة، بل عزّز آليات الكشف المبكر، والتكفل العلاجي، ورفع مستوى التأهيل المهني والاجتماعي للمتعاطين الراغبين في الإقلاع، بما يعكس تحوّلا في فلسفة الدولة من “الردع البحت” إلى “الوقاية بالعدالة”.


* تحصين المجتمع المدرسي… مهمة سياسية لا تقل عن المهام السيادية

ما يُلاحظ من خلال هذا الزخم في المبادرات، هو أنّ الدولة الجزائرية، بمختلف مؤسساتها، بدأت تعي أن المدرسة لم تعد فضاءً محايدًا أو معزولًا عن التهديدات المجتمعية، بل أصبحت في كثير من الأحيان نقطة تماس حقيقية مع قوى التفكك والانحراف، ما يحوّل حماية الوسط المدرسي إلى أولوية وطنية توازي في أهميتها الأمن الغذائي أو الصحي.

فالسياسات التربوية لم تعد تُصاغ فقط من منظور النتائج التعليمية، بل أضحت تمثل واجهة استراتيجية لحماية المجتمع من الانهيارات القيمية، وتعزيز الاستثمار في الإنسان منذ الطفولة، باعتباره الضامن الوحيد لتنمية مستدامة ومستقرة.

من هذا المنطلق، فإن إعادة إدماج التلميذ، توفير بيئة مدرسية سليمة، تنظيم حملات التوعية، ودعم التكفل النفسي، كلها لم تعد “إجراءات قطاعية” تخص وزارة التربية فقط، بل تحولت إلى رهانات وطنية تتقاطع فيها الأدوار بين وزارات: التربية، الصحة، العدل، الداخلية، الشؤون الدينية، وحتى الإعلام والمجتمع المدني.


* من المقاربة التربوية إلى الأمن الوطني الناعم

إن مسألة تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية في الوسط المدرسي لم تعد اليوم مجرد إشكال تربوي، بل باتت تمس الأمن القومي بشكل غير مباشر، بما تحمله من تهديد للتماسك الأسري، والاستقرار المجتمعي، ورصيد البلاد البشري.

وفي هذا السياق، أكّد المشاركون في اليوم الدراسي بمحكمة أدرار، أن القانون الجديد هو محور تحوّل استراتيجي يعكس إرادة سياسية واضحة في بناء منظومة أمنية ناعمة، تعتمد على “التحسيس قبل العقاب”، و”العلاج قبل الردع”، مع تعزيز صلاحيات الدولة في التدخل المبكر وحماية القُصّر، سواء من خلال القضاء أو الفحص الطبي أو حتى التكوين التربوي.

وقد أجمعت المداخلات على أن المعركة ضد المخدرات والانحراف المدرسي لا تُربح في أروقة المحاكم أو مراكز الشرطة فقط، بل تبدأ من البيت، القسم، والمجتمع المحلي. حيث أن كل تلميذ يُنقَذ من براثن التعاطي أو العنف، هو مشروع مواطن صالح، ومكسب استراتيجي للدولة.


* أولوية الدولة: تحويل المدرسة إلى جدار صد مجتمعي

يُستخلص من كل هذه التطورات أن المدرسة الجزائرية تُعاد صياغتها كجدار صد أول ضد التهديدات التي تطال فئة الطفولة والمراهقة. فهي ليست فقط فضاءً لنقل المعارف، بل أصبحت خط الدفاع الأول أمام تفشي السلوكيات المنحرفة، والإدمان، والجهل الرقمي.

إعادة الإدماج، الفحوص الدورية، الرقابة النفسية، إشراك الأولياء، تكوين الأساتذة على التوعية… كلها عناصر في رؤية استراتيجية متكاملة تبنّتها وزارة التربية، بدعم مباشر من السلطات العليا للبلاد، التي أدركت أن أمن المجتمع يبدأ من أمن المدرسة، وأن الاستثمار في التلميذ هو الاستثمار في استقرار الدولة على المدى البعيد.

ويُنتظر أن تستمر هذه الإصلاحات في التوسع خلال الأشهر القادمة، مع تنظيم دورات تكوينية، تعميم التحاليل الوقائية في كل الأطوار التعليمية، وتوسيع صلاحيات المستشارين النفسانيين داخل المؤسسات، إلى جانب إدماج الأئمة والمؤثرين الإعلاميين في حملات التحسيس، في إطار تعبئة وطنية شاملة.


* تحصين التلميذ، تحصين للوطن

إن مجمل هذه القرارات والتوصيات تُعبّر عن انتقال حقيقي في وعي الدولة الجزائرية بأهمية التربية كأداة استراتيجية لحماية الهوية الوطنية والأمن المجتمعي. وبينما كان يُنظر إلى الانقطاع المدرسي أو الانحراف السلوكي كتحديات فردية أو أسرية، فإنها اليوم تدخل في صميم السياسات العمومية، بما تحمله من أبعاد قانونية، اجتماعية، وأمنية.

وبين التحسيس والعلاج، الردع والتوعية، يظهر أن مواجهة هذه التحديات تتطلب مقاربة مجتمعية شاملة، لا تقف عند حدود المدرسة، بل تشمل البيت، الحي، المسجد، وسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي.

فالطفل الذي يُعاد إلى مقعده الدراسي، ويُحصّن نفسيًا، ويُؤطر اجتماعيًا، ليس فقط تلميذًا ناجحًا… بل هو مواطن سوي، وجندي خفيّ في معركة بناء الوطن.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا