الجزائرالٱن _ افتتحت الجزائر الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية IATF 2025 في لحظة فارقة. الكلمات التي ألقيت في الجلسة الافتتاحية، وعلى رأسها كلمة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، لم تكن مجرد تصريحات بروتوكولية، بل جاءت في سياق إقليمي ودولي مضطرب، حيث تعيش القارة الإفريقية سباقًا مع الزمن لإعادة تموضعها داخل النظام العالمي المتغير.
دلالات الافتتاح الجزائري
الافتتاح الجزائري للطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية حمل دلالات تتجاوز الطابع الاقتصادي البحت، لتلامس أبعادًا جيوسياسية ودبلوماسية بالغة الأهمية.
فعلى المستوى الجيوسياسي، فإن استضافة الجزائر للمعرض تعكس إرادة واضحة في تثبيت موقعها كفاعل محوري في القارة. الجزائر لا تطرح نفسها مجرد جسر يربط شمال إفريقيا بعمقها، بل كقطب مؤثر يسعى إلى لعب دور أساسي في صياغة ملامح القارة الجديدة. الرسالة هنا دقيقة ومباشرة: الجزائر لم تعد تقبل بأن تُختزل في موقع هامشي داخل السوق الإفريقية، بل تقدم نفسها كركيزة لا يمكن تجاوزها في أي مشروع تكاملي إفريقي.
أما على المستوى الدبلوماسي، فقد أظهرت كلمات الضيوف والقادة المشاركين إجماعًا لافتًا على مكانة الجزائر وقدرتها على أن تكون منصة جامعة، في وقت يشهد فيه الفضاء الإفريقي تباينًا في المصالح وتزايدًا في الضغوط الدولية. هذا الاعتراف لم يأتِ من فراغ، بل يرتبط برصيد الجزائر السياسي والتاريخي، وبما تملكه من مقومات اقتصادية وبنى تحتية استراتيجية تؤهلها لتأدية دور جامع يوازن بين توجهات متناقضة أحيانًا داخل القارة.
تحليل هذه الدلالات يقود إلى استنتاج محوري: الجزائر استثمرت هذا الافتتاح لتبعث برسالة مزدوجة. إلى الداخل الإفريقي بأنها شريك ملتزم بمسار التكامل وبناء السيادة الاقتصادية الجماعية، وإلى الخارج بأنها لاعب لا يمكن تجاوزه في المعادلة الجيو-اقتصادية للقارة. بهذا المعنى، فإن افتتاح المعرض لم يكن مجرد انطلاق لتظاهرة اقتصادية، بل إعلان عن بداية مرحلة جديدة تسعى فيها الجزائر إلى تثبيت مكانتها كقطب إفريقي فاعل، يزاوج بين الوزن السياسي والقدرة الاقتصادية
منطق القوة الناعمة و القوة الصلبة
منطق القوة الناعمة والقوة الصلبة برز بشكل واضح في افتتاح معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر. الحدث لم يكن مجرد تظاهرة اقتصادية ظرفية، بل أداة جيوسياسية تعكس رؤية الجزائر لمفهوم السيادة الاقتصادية الإفريقية.
في جانب القوة الناعمة، نجحت الجزائر في استثمار قدرتها على استضافة حدث جامع بهذا الحجم، جمع فاعلين اقتصاديين وسياسيين من مختلف مناطق القارة. هذه القدرة لا ترتبط بالجانب التنظيمي فحسب، بل تحمل دلالة أعمق، وهي أن الجزائر تملك جاذبية سياسية ودبلوماسية تسمح لها بأن تكون منصة لقاء وحوار في وقت تتباين فيه المصالح وتتعمق فيه التوترات الدولية حول إفريقيا. إنها رسالة بأن الجزائر ما زالت تمتلك رأسمالًا سياسيًا ورمزيًا يجعلها موضع ثقة إفريقية.
أما القوة الصلبة، فتظهر من خلال المشاريع القارية الكبرى التي تقودها الجزائر على الأرض. الطريق العابر للصحراء ليس مجرد بنية تحتية، بل مشروع استراتيجي يربط أسواقًا متعددة ويكسر العزلة عن بلدان الساحل. أنبوب الغاز نحو نيجيريا يمثل بدوره مشروعًا جيواقتصاديًا يضع الجزائر في قلب معادلات الطاقة الإقليمية والعالمية. كما أن استثماراتها في البنى التحتية ذات البعد القاري تؤكد أنها لا تكتفي بالخطاب، بل تراهن على صناعة الوقائع على الأرض.
هذا التداخل بين القوتين يكشف عن مقاربة جزائرية متكاملة: الجزائر تدرك أن موقعها الإفريقي لا يترسخ بالرمزية وحدها ولا بالمشاريع المادية فقط، بل بالمزج بين الحضور السياسي الجامع والقدرة العملية على بناء شبكات ربط ومصالح مشتركة. المعرض إذًا يعكس نموذجًا مزدوجًا: قوة ناعمة تمنح الجزائر الشرعية، وقوة صلبة تمنحها النفوذ. هذه الثنائية تجعلها في موقع أفضل لفرض نفسها كقطب لا يمكن تجاوزه في مسار التكامل الإفريقي.
المعرض كمساحة لإعادة توزيع الأدوار
المعرض كمساحة لإعادة توزيع الأدوار يفتح نقاشًا يتجاوز الأبعاد الاقتصادية البحتة. الأرقام تكشف أن المبادلات البينية الإفريقية لا تتجاوز 15%، وهو مؤشر على هشاشة السوق الداخلية وضعف قدرة القارة على تحويل مواردها إلى قوة مضافة. لكن ما ميز الكلمات الافتتاحية في الجزائر هو إدراك واضح أن المسألة لم تعد مجرد تبادل تجاري، بل قضية سيادة.
هل يمكن لإفريقيا أن تواصل الاعتماد على الخارج لتسويق مواردها الطبيعية؟ هذا الاعتماد جعلها على الدوام رهينة لتقلبات الأسواق الدولية ولشروط القوى الكبرى. وهل يُعقل أن تتحول القارة إلى مجرد فضاء تنافسي تتصارع فيه القوى الدولية على النفوذ، بدل أن تكون قطبًا فاعلًا في الاقتصاد العالمي؟ هذه الأسئلة حملتها الجزائر في خطابها بقدر من الواقعية، محاولة دفع النقاش نحو إعادة تموضع إفريقي شامل.
المعرض في هذا السياق ليس مجرد مناسبة للتسويق أو لتوقيع عقود، بل منصة لإعادة توزيع الأدوار داخل القارة. هناك دول تملك مشاريع استراتيجية واضحة، مثل الجزائر، التي تطرح نفسها كقاطرة عبر مشاريع بنية تحتية كبرى تربط الشمال بالجنوب وتفتح ممرات جديدة للطاقة والتجارة. وهناك دول أخرى ما تزال تبحث عن موقعها في الخارطة الاقتصادية العالمية، تتأرجح بين التبعية لأسواق الشمال أو الانخراط في ديناميكية إفريقية جديدة.
تحليل هذا المشهد يكشف أن المعرض يمثل اختبارًا لإرادة سياسية جماعية. إذا نجحت إفريقيا في تحويله إلى رافعة لمشاريع تكاملية واقعية، فستكون قد خطت خطوة نحو التحرر من منطق التبعية. أما إذا ظل مجرد واجهة رمزية بلا سياسات عملية، فسيبقى مؤشرًا آخر على تأخر اللحاق بركب القوى الصاعدة
الجزائر و رؤية العدالة الجيو-اقتصادية
الجزائر ورؤية العدالة الجيو-اقتصادية كانت من أبرز الرسائل التي حملها خطاب رئيس الجمهورية في افتتاح معرض التجارة البينية الإفريقية. عندما شدد على ضرورة بناء اقتصاد إفريقي متوازن يقطع مع التبعية، لم يكن يتحدث بلغة الأرقام أو نسب النمو فقط، بل كان يطرح رؤية أعمق تتجاوز الاقتصاد نحو السياسة. إنها مقاربة “العدالة الجيو-اقتصادية”، أي بناء علاقة جديدة بين السياسة والاقتصاد، تُعيد للقارة حقها في صياغة مصيرها بنفسها.
الجزائر تراهن هنا على أن التكامل القاري ليس خيارًا اقتصاديًا تقنيًا يمكن تأجيله، بل شرط وجودي لبقاء القرار السياسي الإفريقي مستقلًا عن ضغوط القوى الكبرى. فبدون سوق إفريقية متماسكة وقدرة إنتاجية ذاتية، ستظل الدول الإفريقية رهينة للتبعية التجارية والمالية.
التركيز على الاستثمار في قطاعات استراتيجية مثل الفلاحة لضمان الأمن الغذائي، الدواء لتعزيز السيادة الصحية، الطاقة لموازنة احتياجات الداخل مع موقع القارة في أسواق العالم، والرقمنة كأداة للحداثة الاقتصادية، يعكس تصورًا شاملًا للنهضة الإفريقية. هذه القطاعات ليست مجرد مجالات نمو، بل أدوات لبناء قدرة ذاتية تُبعد إفريقيا عن أن تكون مجرد سوق استهلاكية للغير أو مسرحًا لتجارب خارجية.
الجزائر تريد دفع القارة نحو نموذج يربط بين التنمية والسيادة. العدالة الجيو-اقتصادية في هذا التصور ليست شعارًا بل مشروعًا لموازنة موازين القوى العالمية، حيث تتحول إفريقيا من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل. وإذا ما نجح هذا الطرح في التحول إلى سياسات عملية، سيكون المعرض نقطة انطلاق لمسار استراتيجي يعيد رسم موقع القارة في الاقتصاد الدولي
افاق ما بعد الكلمات الافتتاحية
آفاق ما بعد الكلمات الافتتاحية تفتح الباب أمام اختبار حقيقي لإرادة القادة الأفارقة. الخطابات منحت دفعة معنوية قوية للمعرض، لكنها في الوقت نفسه وضعت المسؤولين أمام تحديات عملية تتجاوز لغة الشعارات.
أول هذه التحديات يتمثل في تحويل الخطاب السياسي إلى مشاريع ملموسة على الأرض. التجارب السابقة أظهرت أن القمم والمنتديات كثيرًا ما تنتهي دون أثر واقعي إذا لم تُترجم إلى استثمارات وخطط عملية. المعرض سيكون بلا قيمة إذا لم يُفتح على مشاريع إنتاجية وتجارية حقيقية تُغير من واقع المبادلات البينية.
ثانيًا، الحاجة إلى خلق آليات متابعة دائمة تضمن تنفيذ الاتفاقيات. الاكتفاء بالتوقيع أو الإعلان لا يكفي، إذ يجب وضع آليات رقابة وإشراف مشتركة، سواء عبر الاتحاد الإفريقي أو من خلال تكتلات إقليمية، لضمان السير الفعلي للمشاريع. هذا يطرح ضرورة وجود مؤسسات قوية قادرة على مواكبة طموح الخطاب.
ثالثًا، ربط التكامل الإفريقي بالتحولات العالمية الكبرى. العالم يشهد إعادة تشكيل لسلاسل التوريد بعد جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، إلى جانب التحولات في أسواق الطاقة. إذا استطاعت إفريقيا أن تدخل هذه الديناميكية برؤية جماعية، فستكون أمام فرصة تاريخية لتثبيت موقعها كلاعب مستقل. أما إذا بقيت معزولة أو متفرقة، فستظل عُرضة للاستخدام من قبل القوى الكبرى.
إن اللحظة الراهنة ليست مجرد محطة خطابية، بل بداية مسار سيحدد إن كان التكامل الإفريقي سينتقل من حيز الأمنيات إلى واقع استراتيجي. المسؤولية هنا مزدوجة: على القادة أن يبرهنوا على جدية سياسية، وعلى الفاعلين الاقتصاديين أن يترجموا ذلك إلى مشاريع ميدانية.
الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية في الجزائر تعكس لحظة مفصلية: القارة تبحث عن مكانتها في نظام عالمي متغير، والجزائر تعرض نفسها كفاعل مركزي في هذه المعادلة. الكلمات الافتتاحية كانت بمثابة إعلان نوايا، لكن الامتحان الحقيقي سيكون في القدرة على ترجمتها إلى قرارات اقتصادية وسياسية تعزز السيادة الإفريقية وتمنحها صوتًا أوضح في الساحة الدولية.