الجزائرالٱن _ تعود حملات التشويه الممنهجة ضد جامع باريس الكبير في كل مرة تتصاعد فيها التوترات السياسية بين الجزائر وفرنسا، لتُكشف مرة أخرى الأهداف الحقيقية وراء هذه الحملة التي لا تستهدف مجرد مؤسسة دينية أو ثقافية، بل تمثل محاولة ممنهجة لتقويض النفوذ الجزائري في الساحة الأوروبية عبر ضرب رمز حضاري ووطني يربط ملايين الجزائريين في فرنسا بأرضهم وهويتهم.
من هو المستهدف من هذه الحملة ولماذا؟
ليس من قبيل الصدفة أن تتبنى صحيفتا “ليبراسيون” الفرنسية و”هسبريس” المغربية، اللتان تعكسان في كثير من الأحيان مواقف سياسية متداخلة، حملات متزامنة ضد جامع باريس الكبير، فقد بات هذا الجامع، منذ تأسيسه في 1926، أداة مركزية في حفظ الروابط الدينية والثقافية للجزائريين والمسلمين في فرنسا، وهي الجالية الأكبر والأكثر تأثيرًا في البلاد.
إن استهداف هذا الصرح التاريخي يأتي في سياق استراتيجي يخدم أهدافًا أوسع وأعمق، تتمثل في تقويض نفوذ الجزائر في أوروبا، عبر ضرب “آخر جسر” يربط العاصمة الفرنسية بالعاصمة الجزائرية، وقطع القنوات غير الرسمية التي لطالما أربكت خصوم الجزائر، لا سيما في ظل المنافسة الإقليمية الشرسة التي تمارسها الرباط.
المغرب و”حملة التشويه”: أدوات الضغط وتحجيم الجزائر
ليس خافيًا على أحد الدور الذي تلعبه الرباط في شن حملة إعلامية منظمة، تستغل أزمات متصاعدة بين باريس والجزائر، لتسويق روايات تهدف إلى تشويه صورة الجامع، بل وإلباسه دورًا سياسيًا على حساب دوره الديني، في محاولة واضحة لإضعاف مكانة المؤسسة وإثارة الشكوك حول أهدافها.
هذا الهجوم ليس فقط محاولة لتهميش النفوذ الجزائري في قلب فرنسا، بل هو جزء من استراتيجية أوسع يسعى من خلالها المغرب إلى فرض هيمنته على قضايا شمال إفريقيا في أوروبا، مستغلاً ما يطلق عليه “الدبلوماسية الناعمة” عبر التأثير على وسائل الإعلام ودوائر القرار.
اليمين الفرنسي المتطرف: رأس الحربة في استهداف الجامع
إلى جانب الدور المغربي، يبرز اليمين الفرنسي المتطرف كأحد أهم المحركات الداخلية لحملة تشويه صورة جامع باريس الكبير، معتبرًا إياه “واجهة نفوذ أجنبي” يجب محاصرتها والقضاء على تأثيرها في فرنسا.
تلك الأطراف تتبنّى خطابًا معاديًا للإسلام والمسلمين، وتوظف هذه الحملة للضغط على الحكومة الفرنسية لفرض مزيد من القيود على المؤسسات الدينية الإسلامية التي تُعتبر بمثابة “بوابات خارجية” تنقل أجندات دولية إلى الأراضي الفرنسية. ولا يفوت هذه القوى استغلال ملفات مثل احتجاز الكاتب بوعلام صنصال والصحفي كريستوف غليز لتأجيج النزاع وتحميل الجزائر مسؤوليات سياسية معقدة.
جامع باريس الكبير: أكثر من مجرد مسجد
الجامع الكبير ليس فقط مكانًا للصلاة، بل هو مركز ثقافي وتاريخي يعكس هوية ملايين الجزائريين في المهجر، وهو رمز للمقاومة التاريخية ضد محاولات طمس الهوية وفرض النزعات العصبية. عبر عقود، كان الجامع منبرا للحوار والتفاهم، وواجهة حضارية نقلت صوت الجالية الجزائرية إلى القنوات السياسية والاجتماعية في فرنسا.
محاولات تصوير الجامع كأداة سياسية بحتة أو “مخترق” من قِبل السلطة الجزائرية، هي قراءة سطحية ومغرضة تحاول اختزال عمل ديني عريق في أدوار مؤامراتية تهدف إلى تبرير حملات القمع والتمييز التي تتعرض لها الجالية المسلمة.
ضرورة التصدي لهذه الحملة
في مواجهة هذه الحملة المنسقة، يجب أن يقف المجتمع الجزائري، داخل فرنسا وخارجها، وقفة حازمة للدفاع عن مؤسساته التاريخية وثوابته الدينية والثقافية، التي لا تقل أهمية عن أي ملف سياسي أو دبلوماسي. كما أن القوى الديمقراطية والحقوقية في فرنسا مدعوة إلى التنديد بمحاولات استغلال الدين لأغراض سياسية، والتي تنطوي على مخاطر عميقة على نسيج التعايش الاجتماعي.
في النهاية، إن استهداف جامع باريس الكبير ليس إلا جزءًا من لعبة سياسية أوسع تسعى إلى تقويض الجزائر وتحجيم تأثيرها في أوروبا، لكن هذا الحصن سيبقى شامخًا، رمزًا لهوية ومقاومة جالية تعد من الأعمدة الأساسية للمجتمع الفرنسي، ومصدر فخر لكل جزائري يتطلع إلى مستقبل مشرق من الاحترام والتعايش.