عمود يومي | الآن فقط
الجزائر الآن _ تتحرّك باريس مرّة أخرى في محاولة لطمأنة ضميرها الثقافي، فتُخرج من جيبها مشروع قانون جديد يُقال إنّه سيفتح الباب أمام إعادة ما نهبته من ذاكرة الآخرين.
عنوانٌ برّاق يضاف إلى سلسلة طويلة من الوعود التي ما إن تُطلق حتى تذوب أمام أول اختبار حقيقي.
القانون هذه المرّة يُسوَّق كخطوة «شجاعة» لتجاوز مبدأ «عدم القابلية للتصرف» الذي طالما احتمت به المتاحف الفرنسية لإبقاء الآلاف من القطع خلف أسوارها. لكن القانون نفسه، الذي من المفترض أن يُعرض نهاية جويلية على البرلمان ثم يناقش في الشيوخ في سبتمبر، لا يأتي بضمانات واضحة.
ولا يخرج عن كونه محاولة لتبريد ملف ساخن بدأت رائحته تصل إلى الداخل الأوروبي نفسه مع تصاعد أصوات النشطاء والمثقفين المطالبين بردّ الحقوق.
في الواجهة، قد يبدو القانون مكسبًا.
لكنه مكسبٌ من النوع الذي يترك اليد العليا لصاحب المتحف.
كل خطوة فيه مربوطة بموافقات وشروط تقنية وبيروقراطية، تبدأ من «الأهلية في الحفظ» ولا تنتهي عند فكرة «الإعارة المؤقتة».
وكأن من نهبت أرضه وتاريخه يوماً، صار يحتاج شهادة حسن سلوك ليبرهن أنّه قادر على حفظ ما يخصّه من ذاكرة.
الجزائر تعرف هذه اللعبة جيّدًا.
أكثر من خمسة آلاف قطعة تطالب بها رسميًا منذ سنوات: مخطوطات، أسلحة، ذخائر ثقيلة، تحف رومانية وإسلامية، مجوهرات عتيقة، مقتنيات الأمير عبد القادر، مدفع بومرزوق… كلها موزّعة بين متاحف ومكتبات فرنسية تتصرّف بها كأنها إرث خاص، بينما هي في الأصل بقايا مقاومة وأدلة حضارة اقتُلعت عنوة.
وعود ماكرون حين زار الجزائر لم تكُن قليلة.
منذ 2017 لم تهدأ التصريحات عن «ذاكرة مشتركة» و«مصالحة شجاعة» و«ضرورة إعادة ما يجب إعادته». لكن الواقع لم يحمل سوى استرجاع رمزي لجماجم بعض الشهداء الذين عُرضوا قرناً ونصف في القاعات الزجاجية كغنائم حرب. بعدها، بعض المخطوطات الإسلامية في 2022، ثم لا شيء سوى الشروط والقيود.
سوء النية الفرنسية واضحة
ما يزيد من سوء النية، أنّ فرنسا التي تغازل القوانين الجديدة، لم تُصدر حتى اليوم نصّاً خاصًا بالجزائر، بينما فعلت ذلك مع دول أخرى مثل البنين والسنغال. هناك، تحرّكت باريس بسرعة لإعادة تماثيل وتحف منهوبة، كي لا تخسر الصورة الودّية في إفريقيا.
مع الجزائر، الأمر مختلف. هنا الذاكرة ثقيلة جداً، والنهب متشعّب إلى حد يصعب معه أن يقف مسؤول فرنسي ويعترف: “هذه أملاك لا تخصنا”
داخل فرنسا نفسها، لا يبدو الجميع موافقًا على الخطوة.
أصوات كثيرة في دوائر المتاحف تحذّر من «التفريط في تراث الأمة»، وكأن ما نهبوه صار مع الوقت جزءًا من الهوية الفرنسية.
تصريحات مستفزّة، لكنها كاشفة عن ذهنية استعمارية ثقافية لم تغادر بعض الأذهان.
ما زال البعض يصرّ على أنّ أوروبا حمت هذه الكنوز من الضياع، وكأن الشعوب التي صاغتها عاجزة عن حفظها في بيوتها إن عادت يوماً إلى أرضها.
المفارقة أنّ الجزائر، منذ 2021، رفعت هذا الملف من جديد إلى مستوى أعلى.
شكّلت لجنة وطنية لتوثيق الممتلكات المسلوبة، وقدّمت ملفات رسمية إلى اليونسكو، وحشدت موقفاً تضامنياً من دول عربية وإفريقية. لكن كل هذا يصطدم ببيروقراطية فرنسية مدجّنة بقوانين موضوعة بعناية لإبقاء الماضي في الرفوف.
مشروع القانون الجديد سيُناقش ويُقرّ وربما سيطبَّق على حالات معيّنة تُختار بعناية كي يظهر في الإعلام أنّ باريس «تتصالح مع ذاكرتها». لكن الحقيقة أنّ الذاكرة الحقيقية تُعاد دفعة واحدة أو لا تُعاد. الحقّ الثقافي لا يحتاج فتاتاً على شكل إعارات محدودة ولا مشروطية تقنية. الحقّ يُعاد بشجاعة من سرقه، دون أن يتساءل عمّن سيحفظه أو أين سيُعرض أو كيف سيُخزّن.
فرنسا أمام امتحان بسيط: إمّا أن تثبت أنّها طوت صفحة الاستعمار، أو أن تبقى حبيسة قانون يُجمّل الماضي ولا يغسل ذنب النهب.
الجزائر بدورها لم تعد تُراهن كثيراً على نصوص يُكتب فيها أكثر ممّا يُنفّذ.
الرهان الحقيقي على إرادة تُترجم على الأرض، وإلا فإن مدافع بومرزوق والمخطوطات المعلقة ستبقى شهودًا على ذاكرة مغلقة داخل vitrines نظيفة لكنها تشهد على نهبٍ لم يُغلق بعد.