_ تحليل سياسي
_ اتفاقية 1968: من وثيقة قانونية إلى شماعة انتخابية
الجزائر الآن _ في خطوة لم تعد تثير الدهشة بقدر ما تكشف عمق التحوّل داخل المشهد السياسي الفرنسي، يعود نواب اليمين المتطرف، الخميس المقبل، إلى قاعة الجمعية الوطنية لطرح لائحة جديدة تدعو باريس للتنصل من اتفاقية الهجرة الموقعة مع الجزائر عام 1968. المقترح الذي قُدم باسم كتلة “اتحاد اليمين من أجل الجمهورية”، بقيادة إيريك سيوتي، لا يحمل في ظاهره سوى غلاف قانوني باهت، فيما لا يخفي في جوهره هاجسًا واحدًا: تثبيت العداء الممنهج لكل ما هو جزائري داخل الفضاء العمومي الفرنسي .
من صنصال إلى دريانكور: رموز تُستدعى لتأجيج الصراع
وبينما يستند النص إلى ادعاء أن الاتفاقية توفر “نظامًا خاصًا” يسهل هجرة الجزائريين إلى فرنسا، فإن توقيت عرضه يكشف أن الأمر لا يتعلق إطلاقًا بتنظيم قانوني، بل بإعادة تموضع سياسي يسعى من خلاله اليمين المتطرف إلى سحب البساط من تحت أقدام اليمين الكلاسيكي، عبر ورقة الجزائر التي أثبتت مع الوقت أنها مادة دائمة للاستثمار الانتخابي. فحين يُعاد طرح اللائحة في ظروف داخلية فرنسية مشحونة، وحين يُستحضر معها اسم السفير السابق في الجزائر كزافيي دريانكور، بل ويُدرج اسم بوعلام صنصال كـ”قضية”، فإن الرسالة لم تعد بحاجة إلى كثير من التأويل .
لم يكن سيوتي في عرضه الأول قبل نحو عام ونصف أكثر دقة أو احترامًا للواقع، لكنه اليوم، وهو يعيد النسخة ذاتها تقريبًا، يبدو أكثر اندفاعًا، مستغلاً سياقًا إقليميًا ودوليًا يحاول فيه البعض تصفية الحسابات القديمة عبر اتفاقيات لم تكن يومًا مجرد أوراق، بل نتيجة مسار تاريخي طويل، وثمن لتراكمات إنسانية وثقافية واقتصادية جمعت البلدين، وإن لم تكن دومًا متوازنة .
غير أن ما يثير الانتباه في اللائحة الجديدة، هو اقترانها الصريح باتفاقية 2013 المتعلقة بإعفاء حاملي الجوازات الدبلوماسية الجزائرية من شرط التأشيرة. وهنا لم يعد الأمر يتعلق بالهجرة، بل بإعلان نية سياسية في فك آخر ما تبقّى من أدوات التعاون أو ما يشبه الاحترام الرمزي بين الدولتين. ويزيد من فجاجة الخطوة أنها جاءت على لسان نائب لطالما استخدم الجزائر كمرآة يعكس فيها إخفاقات بلاده الداخلية، في سوق العمل، وفي الأحياء المهمّشة، وفي المدارس، بل حتى في الأمن الداخلي، متناسيًا أن الوجود الجزائري في فرنسا ليس حالة طارئة أو دخيلة، بل نتيجة مباشرة لماضٍ استعماري دموي، فرضته فرنسا على الجزائر، ثم قررت لاحقًا تجاهل تبعاته الأخلاقية والسياسية.
الحكومة الفرنسية شريكة صامتة في التصعيد؟
ولعل أخطر ما في هذا المسار، أنه لم يعد يعبر فقط عن أصوات يمينية متطرفة، بل بدأ ينسحب على مفاصل داخل الحكومة نفسها، سواء عبر تصريحات وزير الداخلية أو عبر التوجهات الجديدة في ملفات التأشيرات وتعقيد الإجراءات القنصلية. وهو ما بدأت تلمسه فئات واسعة من الجالية الجزائرية، وعلى رأسها الطلبة، الذين وجدوا أنفسهم، في خضم هذا السجال العقيم، ضحية سهلة لمزاج سياسي متقلّب. ففي وقت يُرفض فيه تجديد الإقامات لطلبة في منتصف مشوارهم الجامعي، وتُطرح مراجعة اتفاقية 1980 الخاصة بالضمان الاجتماعي للجزائريين، يُطرح السؤال الحقيقي: هل تحوّلت العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مجرد ورقة مساومة حزبية؟
اليمين الفرنسي يعرف جيدًا أن اللائحة لن تكون ملزمة للحكومة، وأنها لا تتجاوز حدود الاستعراض الرمزي. لكنه يعرف أيضًا أن هذه الرمزية كافية لتكريس خطاب العداء ضد الجزائر، وفتح شهية أطراف أخرى لنسج خطاب مشابه. ففي ظل انتخابات أوروبية تلوح، وتصدعات داخل الساحة الحزبية، لا يجد كثير من السياسيين أفضل من “العدو الجزائري” لتعبئة قاعدته الانتخابية .
رمزية الاستهداف: كيف تتحوّل المبادرات الفاشلة إلى سياسات فعلية
لكن إذا كانت مثل هذه اللوائح لا تصنع قانونًا، فهي تصنع مناخًا. والمناخ الذي يُراد فرضه الآن هو مناخ يقوّض كل جسر محتمل مع الجزائر، ويبعث برسائل سلبية لكل جزائري اختار فرنسا وجهة للعلم أو العمل أو الحياة. ذلك أن المقترحات العدائية لا تنتهي بتصويت رمزي في قاعة البرلمان، بل تتسرّب إلى السلوك الإداري، وإلى المعاملة اليومية، وإلى نظرة الشارع، وهو ما يجعل هذا النوع من “القوانين الفاشلة” أخطر من تلك التي تُطبَّق بالفعل .
إنها ليست مجرد اتفاقية تُطالب مجموعة يمينية بفسخها، بل فصل جديد من نزعة استعمارية مغلّفة بخطاب قانوني، يسعى من خلالها البعض لمحو كل أثر لذاكرة تاريخية مشتركة، ولحضور إنساني جزائري لم تستطع فرنسا تجاوزه بعد. وما يبدو اليوم محاولة قانونية معزولة، قد يكون غدًا تمهيدًا لحصار كامل من نوع آخر، لا تقوده النصوص بل تغذّيه النوايا.