الجزائر الآن _ منذ اللحظة الأولى التي نددت فيها الجزائر علنًا بعدوان الكيان الصهيوني على إيران، وأعلنت تمسكها بالقانون الدولي ورفضها لانتهاك سيادة الدول، انطلقت الأبواق من الرباط في حملة من الهجوم المنظّم على موقفها، متهمة إياها بالانحياز لطهران وبالاصطفاف الطائفي، وكأنّ مجرد رفض القصف والاغتيالات والاعتداء على منشآت مدنية يجعل من صاحبه وكيلًا عقائديًا لإيران. ومع تصاعد وتيرة العدوان، واتساع دائرة التنديد الدولي، سارعت الجزائر، ضمن مجموعة من الدول بينها الصين وروسيا، إلى دعم طلب طهران بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، لتؤكد مجددًا أن التزامها بالشرعية الدولية ليس خاضعًا لحسابات ظرفية، بل امتداد لثوابت راسخة في سياستها الخارجية .
لم تكن هذه الحملة المغربية الطافحة بالتناقض مجرّد ردّ فعل دبلوماسي، بل جزء من سلوك دعائي مدروس، يُقيس المواقف من زاوية الولاء للمحور الصهيوني الغربي، لا من منطلق المبادئ. وفي هذا السياق، لا تُهاجَم الجزائر لأنها دعمت إيران، بل لأنها رفضت الاصطفاف مع كيان معتدٍ. لأن أي صوت يعلو ضد القصف والاغتيال والتوسّع يُربك سردية المخزن، التي باتت ترى في دعم السيادة خيانة، وفي رفض التطبيع عداءً، وفي مناصرة القانون الدولي تهديدًا لمصالحها .
لقد انخرط النظام المغربي منذ 2020 في تحالف استراتيجي مع الكيان الصهيوني، يتجاوز التطبيع الدبلوماسي إلى الشراكة العسكرية والأمنية والاستخباراتية. ومع هذا التحالف، تغيّرت بوصلة الرباط بالكامل: من لجنة القدس إلى اتفاقات “أبراهام”، ومن رفع شعارات الدعم للفلسطينيين، إلى استضافة ضباط جيش الاحتلال في مناورات عسكرية مشتركة. ومع هذا الانقلاب، باتت الرواية الصهيونية تُكرّس داخل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، حتى في تغطية العدوان على إيران، الذي جرى تقديمه كـ”عملية دفاعية مشروعة”، وكأن اغتيال قادة وعلماء داخل أراضي دولة ذات سيادة لا يستحق حتى الإدانة .
إنّ المخزن لم يكتفِ بالتحالف، بل انخرط في ترويج الدعاية الصهيونية: تبنّى مصطلحاتها، روّج لما يُسمّى “نجاح الضربة الوقائية”، واحتفى بتفوّق الطيران الصهيوني، وكل ذلك من باب ترسيخ صورة الحليف “الموثوق” في عيون واشنطن وتل أبيب، ولو على حساب الانتماء والتاريخ والمبادئ. وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الجوهري: ما الذي يخيف الرباط فعليًا؟ هل هو دعم الجزائر لإيران؟ أم كشف زيف التحالف المغربي الصهيوني أمام رأي عام بدأت تتضح له حقائق الأمور؟
الواقع أن المغرب لا يخشى إيران، بل يخشى انتصارها. لأنه يعلم أن انتصار طهران – ولو سياسيًا أو دعائيًا – سيكون بمثابة ضربة معنوية لتحالفاته. فكل تراجع في صورة الكيان الصهيوني كقوة مطلقة، يعني اهتزازًا في مشروع المخزن الذي بنى رهاناته الدبلوماسية على تلك الصورة، بدءًا من قضية الصحراء الغربية، وصولًا إلى كسب مواقع في إفريقيا بوساطة صهيونية. لذلك فإن صمود إيران، أو نجاحها في فرض توازن ردع، أو حتى فشل الكيان في إخضاعها، سيُربك خارطة تحالفات الرباط، وسيدفعها إلى مواجهة أسئلة داخلية لا تملك لها إجابة .
مفارقة أخلاقية
وفي هذه اللحظة بالذات، تظهر المفارقة الأخلاقية بكل وضوح: أن دعم إيران لا يجعل منك شيعيًا، كما يزعم دعاة التخويف الطائفي، لكن دعمك للكيان الصهيوني يجعلك حتمًا صهيونيًا بالموقع والمضمون. لأن إيران – مهما اختلفت معها – تبقى دولة ذات سيادة تُدافع عن أرضها ومجالها الجوي وتردّ على عدوان مسلح. بينما الكيان الصهيوني هو مشروع استيطاني توسعي، يقوم على الاحتلال والقتل والتهجير. فالموقف منه ليس رأيًا، بل اصطفافًا. والانحياز إليه لا يمكن إلا أن يُدرج في خانة الخيانة الأخلاقية والسياسية .
إنّ الجزائر لم تدعم طهران لأنها تتبنى مشروعها السياسي أو العقائدي، بل لأنها ترفض أن يُصبح العدوان سلوكًا طبيعيًا في العلاقات الدولية، وتؤمن بأن القانون الدولي ليس انتقائيًا، وأن من يدين قصف كييف لا يمكنه تبرير قصف أصفهان. أما المغرب، فقد اختار أن يكون جزءًا من محور يخسر كل يوم أخلاقيًا، مهما راكم من اتفاقيات وسلاح .
وبين هذا وذاك، يبقى الفارق واضحًا: الجزائر اختارت أن تقف حيث يجب أن تقف، والمخزن اختار أن ينحني حيث يعتقد أن المصلحة تملي. وبين من يراهن على المبادئ ومن يراهن على الغزاة، ستُكتب فصول المرحلة القادمة، وستمتحن فيها المواقف قبل أن تُحسب الانتصارات .