الجزائرالٱن _ حين يتحدّث العالم عن القوة الأمريكية، تتركز الأضواء على البيت الأبيض والبنتاغون وول ستريت، لكن الحقيقة أن هناك ثلاث شركات تستتر خلف هذه الواجهات، تمسك بخيوط السياسة، وتتحكم بالاقتصاد، وترسم الحدود بين الصراع والسلم، دون أن تحتاج إلى انتخابات أو برلمان أو تصريح من وزارة الخارجية.
تلك هي: بلاك روك (BlackRock)، فانغارد (Vanguard)، وستيت ستريت (State Street).
عندما يتجاوز المال حدود الدولة
بلاك روك: تأسست سنة 1988، وتُعد اليوم أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، بأصول تتجاوز 10.5 تريليونات دولار (2025). يرأسها لاري فينك، رجل الأعمال الذي تحول إلى صوت حاسم في السياسات المالية للبيت الأبيض و”نصير المناخ” في العلن، وصاحب النفوذ في صناعات الوقود والسلاح خلف الكواليس.
فانغارد: شركة خاصة لا تملكها جهة واحدة، بل يديرها نظام من “الملكية المشتركة” بين المستثمرين، وتدير ما يزيد عن 8.2 تريليونات دولار. من خلال أدواتها الاستثمارية، تتحكم فانغارد في حصص كبرى في شركات التكنولوجيا والاتصالات والدفاع، مثل آبل، أمازون، بوينغ، وحتى فيسبوك (ميتا)
ستيت ستريت: الأقدم بين الثلاث، تأسست سنة 1792، وتدير أصولًا تقارب 4 تريليونات دولار، لكنها تلعب دورًا أكبر في مجال “الوصاية المالية” (custodianship) على الأصول الكبرى، وخصوصًا صناديق التقاعد الحكومية والشركات السيادية.
من يملك من؟ وكيف تتقاطع مصالحهم؟
ما يثير القلق في النظام المالي الأمريكي هو التداخل بين هذه الشركات:
ـ فانغارد تملك حصصًا كبيرة في بلاك روك، والعكس بالعكس.
ـ ستيت ستريت تملك أيضًا أجزاء من الشركتين الأخريين.
ـ جميعها تملك حصصًا في الشركات نفسها، فتراها أكبر المساهمين في أمازون، مايكروسوفت، أبل، لوكهيد مارتن، رايثيون، شيفرون، وموديرنا!
بعبارة أخرى: ثلاث شركات تسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على حوالي 90٪ من رؤوس أموال كبرى الشركات الأمريكية، مما يمنحها حق التصويت في مجالس إداراتها، وقدرة على التأثير في تعيين الرؤساء التنفيذيين، وتوجيه الاستراتيجيات الكبرى.
تعتمد هذه الشركات على إدارة الأصول، وهي تضع يدها على تريليونات الدولارات من أموال صناديق التقاعد والتأمينات وصناديق الثروة السيادية حول العالم.
التأثير في السياسة: من اقتصاد الظل إلى لوبي النفوذ
هذه الشركات لا تموّل الحملات الانتخابية كأفراد، لكنها:
ـ تتحكم في وسائل الإعلام من خلال حصصها في شركات الإعلام الكبرى (Comcast، Disney، News Corp).
ـ توجه تدفقات التمويل نحو القطاعات المرغوبة في السياسات العامة (مثل الطاقة الخضراء أو الدفاع)
ـ تمارس الضغط عبر شركات العلاقات العامة واللوبيات في واشنطن.
ـ لاري فينك، رئيس بلاك روك، على وجه الخصوص، حضر اجتماعات السياسة النقدية مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وشارك في وضع خطة إنقاذ الأسواق بعد أزمة كورونا، وكُلفت شركته ببرامج شراء السندات نيابة عن الحكومة.
ترامب.. المستفيد الأكبر من هذا النفوذ المالي؟
منذ حملته الأولى، لم يخفِ دونالد ترامب اعتماده على شبكات المال القوي، ومع عودته للواجهة عام 2024، بدأت العلاقة تتخذ طابعًا أكثر وضوحًا:
ـ مستشارون مقربون من ترامب التقوا بممثلي بلاك روك وفانغارد خلال الحملة الانتخابية، لبحث إمكانية تمويل مشاريع ضخمة في البنية التحتية والذكاء الاصطناعي.
ـ تقارير إعلامية كشفت عن دعم غير مباشر من صناديق تابعة لفانغارد لحملات الضغط المؤيدة لترامب داخل بعض الولايات المتأرجحة.
الجديد اليوم أن هذه الشركات لا تمول الحملات فقط، بل قد تشارك في إعادة هندسة الاقتصاد الأمريكي عبر الصفقات العابرة للحدود. بعبارة أخرى، صعود ترامب السياسي يتقاطع مع صعود هذه الكيانات المالية.
وتذهب بعض التحليلات إلى أن هذه الشركات تراهن على “ترامب 2024-2028” كورقة استقرار في الداخل الأمريكي وكجسر طويل الأمد نحو الأسواق الخليجية الغنية. في المقابل، تمنح علاقاتها الخليجية ضمانات استثمارية ضخمة تتيح لها توسيع نفوذها دون قيود الرقابة المالية الأميركية التي عادة ما تشتد في ظل إدارات ديمقراطية.
في هذا السياق، يُنظر إلى هذه العلاقة كمحاولة لإعادة تشكيل الدولة الأمريكية على مقاس “ترامب النيوليبرالي”، الذي يراهن على المال لإعادة هندسة السلطة.
الخليج.. نقطة ارتكاز النفوذ الجديد
خلال زيارة دونالد ترامب قبل أيام إلى دول الخليج (السعودية، قطر، الإمارات)، لم يكن التركيز فقط على السياسة أو الأمن، بل كانت ملفات الاستثمار والطاقة والذكاء الاصطناعي محور اللقاءات. خلف الستار، حضر ممثلو بلاك روك وفانغارد اللقاءات “المغلقة” مع ولي العهد السعودي ومسؤولين إماراتيين وقطريين، بصفتهم شركاء موثوقين في تمويل مشاريع البنية التحتية والانتقال الطاقوي.
ـ بلاك روك حصلت على حصة في صندوق “رؤية 2040” القطري، لتوجيه استثمارات في الذكاء الاصطناعي والنقل الذكي.
ـ فانغارد دخلت مفاوضات مع شركات خليجية كبرى لتأسيس صناديق استثمارية مشتركة تستهدف السوق الأمريكية.
ـ ستيت ستريت تعزز دورها في تأمين الأصول السيادية الخليجية، وتقديم خدمات الاستشارات في التحول نحو الاقتصاد الرقمي.
لكن المهم ليس هذه المشاريع بحد ذاتها، بل الهدف منها: ضخ سيولة خليجية إلى الأسواق الأمريكية، ودعم شركات التكنولوجيا والدفاع الكبرى، وهي نفس الشركات التي تمتلك فيها بلاك روك وفانغارد حصصًا كبرى.
بكلمة واحدة: هذه الجولة لم تكن مجرد نشاط دبلوماسي، بل عملية إعادة تدوير رأس المال السياسي عبر المال (المالي).
نفوذ بلا مساءلة
يُطرح سؤال جوهري اليوم في واشنطن: هل ما تزال الديمقراطية الأمريكية قادرة على فرض رقابة على هذا النوع من القوة المالية؟ الجواب ليس واضحًا. فهذه الشركات تمول مراكز أبحاث، ومؤسسات إعلامية، وحتى جامعات، ما يجعلها قادرة على صنع سردية اقتصادية متكاملة تخدم مصالحها.
القلق الأكبر أنها قد تستخدم هذا النفوذ لتعطيل أي إصلاحات ضريبية تمس الأرباح الرأسمالية أو لتوجيه السياسات الخارجية الأمريكية بما يخدم الاستقرار الاستثماري في الخليج أو آسيا.