الجزائرالٱن _ لم تعد القضية تحتاج إلى اجتهاد تحليلي أو استقراء خفي، ففضيحة التعاون العسكري المغربي مع الكيان الصهيوني لم تأتِ هذه المرة من تقارير دولية أو تسريبات خارجية، بل من داخل النظام نفسه. جريدة “هسبريس” المقربة من دوائر القرار في الرباط أكدت – بصريح العبارة – أنّ عمالًا في فرع شركة “ميرسك” بميناء طنجة المتوسط قدموا استقالاتهم احتجاجًا على توريد الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، وهي الواقعة التي تفضح ما دأبت الرباط على إنكاره منذ اندلاع عدوان غزة الأخير.
ثمانية عمال حتى الآن رفضوا المشاركة في هذه الجريمة الموصوفة، بعدما تأكدوا أن السفن الأمريكية التي ترسو في الميناء المغربي محمّلة بالأسلحة الموجهة مباشرة نحو ميناء حيفا المحتل. والفضيحة الأكبر أن هذه الأسلحة تمر تحت أنف الدولة، عبر شركة دانماركية تدير نشاطًا عسكريًا حساسًا من داخل أرض المغرب، بينما الحكومة تمارس دور المتفرج أو الشريك الصامت.
الاستقالات لا تعبّر فقط عن موقف أخلاقي نبيل من عمال قرروا عدم التورط في قتل الفلسطينيين، بل هي شهادة حية على ما ظل النظام المغربي ينفيه بشراسة. هذه المرة لم تكن المعارضة هي من تحدثت، ولا جهة إعلامية خارجية، بل لسان المخزن نفسه هو من نطق بالخبر، وهو ما يُسقط آخر أوراق التوت عن جسد سياسي لم يعد يُخجل من التطبيع، بل يتورط في دعمه العسكري المباشر.
عندما تخرج هذه المعلومات من جريدة مثل “هسبريس”، التي تُعرف بتبعيتها للأجهزة، فإننا أمام تسريب من داخل النظام لا من خارجه. فلم يعد بالإمكان الادعاء بأن الأمر شائعات أو مزاعم ملفقة. بل أصبح مؤكدًا أن ميناء طنجة تحوّل إلى نقطة “ترانزيت” للرصاص المتجه إلى صدور الأطفال في غزة. إنها خيانة موثقة بالصوت والصورة، وبالاستقالات الجماعية، وبصمت الدولة الذي يعني شيئًا واحدًا: الموافقة.
أيّ خطاب رسمي عن “الدعم الثابت للقضية الفلسطينية” أصبح نكتة سمجة، وأي حديث عن “الانتماء العربي” تحوّل إلى كذبة لم يعد يُصدقها أحد. النظام المغربي، بدلًا من الاكتفاء بالتطبيع السياسي والاقتصادي، ها هو ينتقل إلى مرحلة التطبيع الدموي، عبر تمرير أسلحة حرب تشارك في الإبادة الجماعية.
والعار الأكبر، أن من رفض هذا التورط ليس برلمانًا حرًا، ولا مؤسسة دستورية، بل عمّال بسطاء، ضمائرهم أنقذتهم من أن يكونوا تروسًا في آلة القتل. في المقابل، تلوذ السلطات بالصمت، ولا يصدر عنها حتى مجرد توضيح، لأنها تعلم أن التورط مثبت، وأن أي تصريح سينسف ما تبقى من خطاباتها الزائفة.
هذا الحدث لا يمكن عزله عن سياق التعاون المتزايد بين المغرب والكيان الصهيوني. فالصفقات العسكرية لم تتوقف منذ اتفاق العار المعروف باسم “اتفاق أبراهام”، والزيارات المتبادلة، والتنسيق الاستخباراتي، كلّه كان تمهيدًا لهذه اللحظة: أن تتحول أرض مغربية إلى ممر للأسلحة التي تفتك بالفلسطينيين.
ليت النظام المغربي اكتفى بالخزي الدبلوماسي، لكنه تجاوز ذلك إلى لعب دور الوسيط اللوجستي في جريمة حرب. فما الفرق بين من يضغط الزناد، ومن يسلّمه الرصاصة؟ من يفتح موانئه لسفن القتل، هو شريك كامل في المجزرة، مهما حاول أن يغسل يديه بكلمات جوفاء أو خطب رسمية.
إنها لحظة فاصلة. إما أن يتحرك الشعب المغربي لمحاسبة هذا النظام الذي باع القيم والقضية، أو أن يصمت إلى الأبد عن الحديث باسم فلسطين. لم يعد ممكنًا التظاهر بالدعم، والسكوت عن مرور شحنات الموت. فالمنافق لا يُنقذ شعبًا، والمتواطئ لا يمكنه الدفاع عن المظلومين، بل هو الوجه الآخر للجاني.