_ مقال رأي
الجزائر الآن _ في الجزائر، لم تعد البرامج الرياضية التحليلية فضاءً لمناقشة كرة القدم بموضوعية ورؤية فنية، بل تحوّلت إلى منصات يتقاسم فيها الضيوف الأدوار حسب أهوائهم، فيما يكتفي المقدم بدور المتفرج، وكأنّه مجرّد عنصر ديكور لا يملك من أمر الحوار شيئاً.
الضيف هو من يختار موضوع النقاش، وهو من يوجه حدّته، وهو من يرفع السقف أو يخفضه وفق ميوله وانتمائه، فيما تغيب المهنية، وتغيب الرقابة، وتغيب حتى أبسط القواعد التي تُبقي النقاش في دائرة التحليل لا الخصومة.
ولأنّ المشهد صار عبثيًا، صار الاستوديو التحليلي أشبه بمقهى صاخب، لا من حيث الشكل، بل في الجو والمضمون. نفس اللغة، نفس المزاج، نفس طريقة النقاش الانفعالية: كل واحد يتمسك برأيه، يرفع صوته، يقاطع الآخر، ويصنع من كل خطأ تحكيمي قضية رأي عام. هو نفس نقاش المقهى، لكن بربطة عنق وكاميرا، مما يعطيه زيفًا في الرصانة، ويُخفي داخله كل مظاهر الانفلات والارتجال.
أغلب هؤلاء الضيوف يُستدعون فقط لأنهم لعبوا يومًا كرة القدم. وكأن ذكريات الملاعب، وحدها، تُغني عن الرؤية، والمنهج، والتحليل. البعض لا يُحسن تركيب جملة مفيدة، ولا يفرّق بين النظام التكتيكي والانفعال العاطفي. لكن ذلك لا يهم، فالقناة تبحث عن الصخب، لا الجودة. تبحث عمّن يشعل النار، لا من يضيء الفكرة. وهكذا، يتحوّل البرنامج إلى مدرج آخر، بصوت أعلى، وميكروفون مفتوح على كل أنواع التشنج.
أما المقدم، فهو غائب بالحضور. لا يقود النقاش، لا يطرح الأسئلة، لا يوجه الضيوف، بل يترك لهم الحبل على الغارب، وكأن الهدف من الحلقة ليس الفهم، بل الاشتباك. هو شاهد صامت، وربما متواطئ ضمنًا، ما دام الصراخ يرفع نسب المشاهدة، ويُرضي مزاج الجمهور المتوتر سلفًا.
في المقابل، حين نتابع برامج رياضية في تونس أو مصر أو السعودية، نُدرك كم تأخرنا. هناك، رغم كل التحفظات، ثمّة ضيوف يملكون رصيدًا معرفيًا، ويملكون لغة، وأسلوبًا، ووعيًا بدورهم الإعلامي. هناك مقدم يعرف متى يتدخل، ومتى يسحب الكلمة من ضيف تجاوز حدّه. هناك خطوط حمراء تُحترم، وهيبة للمشاهد لا تُهان.
أما عندنا، فقد صارت البرامج الرياضية تغذّي العنف، وتزرع العداء، وتخلق أساطير الظلم والتآمر، وتبرر كل شغب على أنه “رد اعتبار”. بدل أن تعلّم الجمهور ثقافة التقبل والنقاش، تُلقّنه شعارات الثأر والانتصار بأي وسيلة.
إن أخطر ما في هذه البرامج أنها لا تناقش مباراة، بل تُعدّ الرأي العام نفسيا لأسبوع من التوتر، وموسم من الفتنة، وكل ذلك تحت اسم “التحليل”.
ما نحتاجه ليس مزيدًا من الأصوات المرتفعة، بل إعلامًا يُربّي، يُنظّم، ويشرح. نحتاج برامج تُعيد المعنى إلى الرياضة: فن، أخلاق، وتنافس نظيف، لا طاولة قهوة بربطة عنق، ولا شاشة تُسوّق للضجيج على أنّه رأي.