لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مجرد تبدّل في الوجوه داخل قاعة بلدية، بل لحظة رمزية قلبت موازين الصورة في أميركا والعالم العربي معا. فالرجل الذي جاء من الهامش، ابن المهاجرين والمسلم واليساري التقدّمي، لم يكتف بتحقيق إنجاز انتخابي لافت، بل أطلق نقاشا عابرا للقارات حول معنى الهوية والانتماء والتمثيل.
وبين من رآه انتصارا للمسلمين والفقراء، ومن اعتبره "اختراقا يساريا" في معقل الرأسمالية، ومن قرأ فيه دليلا على انفتاح الغرب على التنوّع، وجد العرب أنفسهم في مرآة جديدة تعكس أحلامهم المؤجلة وأسئلتهم القديمة عن العدالة والمكان والهوية.
لقد هللت وسائل إعلام عربية ومنصات التواصل الاجتماعي لهذا الانتصار التاريخي، الذي يرى فيه الكثيرون دليلا على تغير جوهري في توجهات الرأي العام الغربي. وبات يُنظر إلى ممداني -أول عمدة مسلم وأصغر من يتولى هذا المنصب منذ قرن- بوصفه رمزا قاطعا على أن صوت الأقليات والمهاجرين قادر على اختراق أعلى مستويات السلطة في الغرب.
وقد شكل موقف ممداني الصريح والمؤيد لوقف إطلاق النار في غزة، وانتقاده السياسات الإسرائيلية، نقطة ارتكاز رئيسية في الاحتفاء العربي. وقد وصفت العديد من التحليلات فوزه بأنه "هزيمة ساحقة" للصهيونية وللرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان قد شن حملة شرسة على "المرشح الشيوعي"، خاصة وأن نيويورك تعتبر أكبر تجمع يهودي خارج فلسطين المحتلة.
ورأى الناشطون العرب أن صعوده يمثل انتصارا للعدالة ولقضايا الشعوب المظلومة، وأن الشعوب الغربية باتت تتوق إلى سياسيين "يتحدثون لغتها ويشعرون بأوجاعها"، حتى إن البعض أشار إلى أن فوزه جاء "رغم أنف اليمين والصهاينة، ورغم حملاتهم وأموالهم لتشويهه".
لقد عززت حملة ممداني المبتكرة من شعبيته في أوساط الجالية العربية والمسلمة، حيث تضمنت مخاطبة الناخبين باللغة العربية وتناول الكنافة النابلسية في محلات البقالة، في مشهد وُصف بأنه غير مألوف في الانتخابات الأميركية.
واستثمر الإعلام العربي بكثافة في صفة "المسلم" في شخصيته، في حين ركزت التيارات اليسارية على إبراز هويته كمرشح ديمقراطي اشتراكي يدافع عن الطبقة العاملة والفقراء في نيويورك، ويطالب برفع الضرائب على الأغنياء. هذا التنوع في زوايا التغطية يؤكد محاولة كل تيار عربي أن يجد في نجاح ممداني تأكيدا لتوجهاته.
وبمجرد أن رفع يديه ملوحا بنجاحه في منصب عمدة نيويورك، فقد تحوّل ممداني إلى رمزية عابرة للقارات أشعلت نقاشات محتدمة في الفضاء العربي. هذا الرجل، الذي يجمع بين صفات غير مسبوقة، أصبح فجأة "المرآة" التي يتنازع الجميع على رؤية صورتهم فيها.
ولعلّ ما يجعله شخصية مشوقة للعرب هو هذا الخليط النادر، فهو ابن مهاجرين، وناشط يساري صريح، وعضو فاعل في حركة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين "دي إس إيه" (DSA)، والأهم من ذلك أنه وجه معروف في الاحتجاجات المؤيدة لغزة والداعية لوقف إطلاق النار.
هذا المزيج الثري يفسر سر هذا التنازع العربي. فكل تيار يسعى لتبنيه، فالإسلاميون يرونه واحدا منّا بصفته مسلما "نصير غزّة" ومؤيدا للقضية الفلسطينية. بالمقابل يهتف له اليساريون العرب باعتباره ممثلاً لأفكارهم كونه ديمقراطيا اشتراكيا صريحا. كما تحتفل به التيارات الليبرالية والديمقراطية التقليدية بوصفه نموذجا مبهرا لقصص نجاح المهاجرين والتنوع العرقي في الوصول إلى أعلى المناصب.
على خلاف الصورة الأسطورية التي رسمها له بعض المعلّقين العرب، فإن ممداني لا يحمل برنامجا ثوريا يقلب الطاولة على النظام الأميركي، بل يقترح تعديل موازينها من الداخل. ففي مواقفه من فلسطين، فقد دان هجمات حركة حماس بوصفها "جريمة حرب مروّعة"، وفي الوقت نفسه اعتبر أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وطالب باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك تنفيذا لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية ، وهو نفسه كان قد اُعتقل في مظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار، وظل موقفه المؤيد لحقوق الفلسطينيين جزءا من صورته العامة، ومن الهجوم عليه في الإعلام الأميركي والإسرائيلي.
لكن وراء هذا الاحتفاء العاطفي تكمن حقيقة يجب إدراكها، وهي أن ممداني، رغم خلفيته، هو نتاج سياق أميركي محدَّد، فهو ابن مدرسة الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، يعمل ويُشرّع ضمن مؤسسات أميركية راسخة، وقبل كل شيء يخاطب جمهوره وناخبيه في نيويورك وليس في أي عاصمة عربية. فهل سينجح في تحقيق التوازن بين رمزيته العالمية وواقعه السياسي الأميركي؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
وتأسيسا على موقفه كاشتراكي ديمقراطي تقدمي، يُعد ممداني مناصرا قويا ومتقدما لحقوق الشواذ جنسيا والمتحولين جنسيا. ويتجاوز دعمه مجرد البيانات العامة ليتحول إلى تعهدات سياسية ملموسة، تشمل حماية وتمويل الرعاية الصحية الداعمة للنوع الاجتماعي (Gender-Affirming Care) وجعل نيويورك "مدينة ملاذ" لأفراد هذا المجتمع.
وقد تعهد ممداني باستثمار 65 مليون دولار في الرعاية الصحية للمتحولين جنسيًا في نيويورك. ونتيجة لهذا الموقف الثابت، حصل ممداني على دعم واسع وتأييد رسمي من كبرى المنظمات المعنية بحقوق "مجتمع الميم" في نيويورك.
إذن، العمدة الجديد لمدينة نيويورك هو يساري تقدّمي، نقدي للمؤسسة الأميركية ولإسرائيل، لكن من داخل النظام.
لا ينتمي ممداني لأي من التيارات العربية، لكنه ابن بيئة أميركية تقدّمية لها تاريخها ومرجعيتها. وهو نتاج معركة داخل الحزب الديمقراطي بين جناح المؤسسة التقليدي وجناح العدالة الاجتماعية الذي يمثله بيرني ساندرز و ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز . وإذا كان يتحدث عن غزة، فهو يفعل ذلك بصفته إنسانا يساريا يرى في الإبادة جريمة، لا بصفته ممثلا لجالية عربية.
وحتى في أوج حماسة أنصاره، لا يمكن إغفال أن منصب العمدة، مهما بلغ نفوذه في نيويورك، يظلّ محصورا في الشؤون المحلية، فقضايا السياسة الخارجية، والعلاقات مع إسرائيل، ومواقف الحرب والسلام، كلها خارج صلاحياته. وكل ما يستطيع تغييره هو ميزانية المدينة، وأولويات الإنفاق، ومناخ النقاش العام.
وهو في كل ذلك سيواجه تحديات ضخمة، فسوف يقف أمامه كل من لوبيات العقار التي ترى في تجميد الإيجارات خطرا على أرباحها، والمصالح المالية لشارع المال والأعمال وول ستريت التي تتوجّس من أي سياسات ضريبية جديدة، وكذلك الإعلام المحافظ الذي بدأ بالفعل شيطنته بوصفه "الوجه الإسلامي لليسار المتطرف".
ومع ذلك، يبقى لممداني مساحة من التأثير الرمزي، فأن يكون عمدة أكبر مدينة أميركية مسلما ومهاجرا ومؤيدا لغزة، ومتحدثا بلغة العدالة الاجتماعية، فهذا بحد ذاته انقلاب ثقافي في صورة القيادة السياسية الأميركية. وربما هنا تكمن أهميته الحقيقية، ليس في ما سيفعله، بل في ما يمثّله.
يأتي صعود ممداني في لحظة حاسمة من تاريخ الحزب الديمقراطي الأميركي، إنها لحظة يعاد فيها تعريف معنى "الديمقراطية التقدمية" من الداخل. فاليسار الأميركي، الذي كان طويلاً صوتا نخبويا في الجامعات والصالونات، بدأ منذ عقد يتخذ ملامح أكثر شعبية، متجذرا في القضايا اليومية مثل الإسكان والأجور والتعليم والمناخ والعنصرية البنيوية.
وبهذا فإن ممداني أحد أبناء هذا التحوّل، لا استثناء منه. فهو لا يمثل الجناح الكلاسيكي المرتبط بالمؤسسة الديمقراطية الموالية للأسواق واللوبيات، بل ينتمي إلى التيار الجديد الذي يقوده جيل ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، حيث اليسار لا يعتذر عن لغته الطبقية، ولا يخشى الدفاع عن العدالة الاجتماعية في مواجهة الرأسمالية المتوحشة.
بفوزه في نيويورك، يمدّ ممداني هذا التيار بخبرة ميدانية جديدة، فهو أول سياسي من خلفية مسلمة مهاجرة يتجاوز حدود "الدائرة التمثيلية" ليصل إلى منصب تنفيذي في مدينة تعتبر مركز المال والإعلام الأميركي. وهو بهذا دليل على أن خطاب اليسار التقدّمي لم يعد مجرّد صرخة احتجاج من الهامش، بل بدأ يجد طريقه إلى مؤسسات القرار نفسها.
ومع ذلك، فإن صعوده يعكس أيضا أزمة الحزب الديمقراطي الأكبر، إنه الانقسام بين جناح يسعى لتجديد روح العدالة الاجتماعية، وجناح آخر يخشى خسارة الوسط الانتخابي ويستمرّ في المساومات مع قوى المال والسوق.
من هنا، يصبح ممداني أشبه بوجه رمزي لتحوّل أعمق يعصف بالديمقراطية الأميركية نفسها، ويمكن القول إن هذا التحول يضع اليسار الأميركي أمام امتحان جذري، فهل يستطيع أن يبقى تقدّميا من دون أن ينفصل عن واقع الحكم؟
يصعب الجزم إن كان صعود ممداني يؤشّر على نهضة يسار أميركي متكاملة أو على موجة مؤقتة ستتراجع تحت ثقل المؤسسة السياسية والمالية. لكن ما يمكن قوله بيقين هو إن حضوره يكشف تحوّلًا في الوعي الجمعي داخل المدن الكبرى، فقد تعب المواطنون الأميركيون من خطاب الوسط البارد، وعادت مجددا الأسئلة التي حُجبت طويلا خلف شعارات "الواقعية الاقتصادية".
وفي هذا السياق، فإن ممداني ليس مشروع زعيم أيديولوجي، بل هو أقرب إلى أعراض مرحلة تعيد فيها أميركا النظر في فكرة المساواة ذاتها، رغم أن النظام السياسي الأميركي لا يزال شديد المقاومة للتغيير الجذري، وكل محاولة يسارية للتمدد إلى مراكز السلطة تُواجه بحزام ناري من المال والإعلام والمصالح.
ولقد رأينا كيف تم احتواء بيرني ساندرز داخل الحزب، وكيف تم تطويع خطاب ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز ضمن حدود الممكن الانتخابي. لذلك، قد يتحوّل ممداني إلى رمز جديد لليسار الأخلاقي داخل النظام من دون أن يملك بالضرورة القوة لإعادة تشكيله.
ومع ذلك، تظل رمزيته أقوى من موقعه الإداري، فمجرد أن يقود مسلمٌ مهاجر من أصل أفريقي آسيوي أكبر مدينة في الولايات المتحدة ، بدعم من الفئات العاملة والملوّنة، يعني أن البنية الثقافية للنظام بدأت تتزحزح من الداخل.
إنه ليس ثورةً حمراء، بل زحفا بطيئا نحو ضمير سياسي أكثر إنسانية، تحرّكه قضايا الناس لا حسابات الشركات. وإن كانت التجربة ستنجح أو تنكسر تحت ثقل الواقع، فإنها على الأقل تثبت أن أميركا لم تعد حكرًا على وجوهها التقليدية، وأن اليسار الجديد بات يتحدّث بلكناتٍ متعددة، إحداها تحمل نبرة مهاجر مسلم اسمه ممداني.
إذن صعود مسلم مهاجر ويساري تقدمي إلى كرسي العمودية في أكبر مدينة أميركية، يؤشر على أن الانتماء في السياسة والثقافة لم يعد كما كان صافيا، مغلقا، قابلا للتعريف في جملة واحدة. ففي زمن الشبكات والاختلاط الكبير تظهر شخصيات مثل ممداني لتقول إن العالم لم يعد يتسع للانقسامات القديمة، نحن إزاء مسلم يقف إلى يسار الاقتصاد، ومهاجر يقود مدينة رمزية في قلب الإمبراطورية الأميركية، وتقدّمي يرفع صوته ضد الإبادة في غزة من داخل مؤسسات الدولة الأميركية نفسها.
هذا الخليط المعقّد لا يُفهم بمعايير الهوية التقليدية، بل بما يمثّله من تحوّل ثقافي عميق، أي انتقال القيادة من الفئات المغلقة إلى الوجوه الهجينة التي تجمع تناقضات العالم وتعيد تركيبها في شخصية واحدة. وبهذا فإن ممداني ليس ابن طائفة ولا حزب ولا أيديولوجيا صافية؛ إنه ابن هذا العصر المزدوج، حيث يمكن أن تكون مسلما واشتراكيا وأميركيا في آنٍ واحد من دون أن يُلغي أحدها الآخر.
بهذا المعنى، ففوزه ليس حدثا سياسيا فحسب، بل علامة ثقافية على مرحلة جديدة من العولمة الإنسانية، إنها مرحلة الرموز العابرة للهويات، التي لا تمثل عرقا أو دينا بعينه، بل تمثل فكرة أوسع عن الإنسان وقدرته على إعادة تعريف ذاته في فضاء مفتوح.
ويبدو أن زمن الانتماءات الصلبة الذي يمثله اليمين الأميركي في البيت الأبيض يقف على تضاد وجودي مع اليسار التقدمي الجديد الذي يمثله العمدة الجديد، فالوجوه التي تتصدر المشهد العام في الغرب، من ممداني إلى غيره من أبناء المهاجرين، تُجسّد تحوّلا ثقافيا عميقا، إنه انتقال العالم من منطق الهوية الأحادية إلى منطق الهجنة والتداخل.
فممداني ليس "المسلم" الذي يريد بعض العرب احتضانه، ولا "اليساري" الذي يراه آخرون علامة على عودة الاشتراكية، ولا "الليبرالي" الذي يحتفي به دعاة التنوع. إنه شيء من كل ذلك، لكنه في الجوهر رمز عابر للهويات، يصوغ تعريفه لنفسه خارج القوالب الجاهزة.
وفي سيرته تتجاور أوغندا المسلمة، و الهند الآسيوية، وأميركا المتعددة، واليسار الغربي، وغزة الجريحة، في صورة واحدة متداخلة بلا تناقض. وهذا النوع من الرموز يُعبّر عن عالم جديد يعيش تداخلا متعدد الهويات الفرعية، أو تسييلا مستمرا للهويات؛ إنه عالم لم تعد فيه الحدود الثقافية والدينية والعرقية قادرة على حبس الإنسان داخل تعريف واحد. فالمهاجر الذي كان يُنظر إليه يوما كغريب، صار الآن قادرا على تمثيل "الأغلبية" في مدينة عالمية. والمسلم الذي كان يُعامل كتهديد أمني، يمكنه أن يقود مدينة ضخمة ويتحدث عن العدالة الاجتماعية بلغة أميركية بحتة.
إن صعود الرموز العابرة للهويات لا يعني تلاشي الاختلاف، بل تجاوز الجمود في فهمه. بهذا المعنى، فإن فوز ممداني ليس مجرد حدث انتخابي، بل هو حدث ثقافي يرمز إلى لحظة نادرة في التاريخ الحديث، حيث يصبح فيها الاختلاط ذاته هو الهوية، ويغدو العبور بين العوالم شرطا للقيادة، لا خطيئة سياسية. إنه انتصار لفكرة الإنسان المتعدد، الفكرة التي تجسد الفكرة الأميركية المؤسِّسة أي بوتقة صهر الثقافات (Melting Pot).
وعودا على بدء، بشأن الاحتفاء العربي، فإن فوز ممداني ليس نهاية قصة، وقد لا يكون العمدة الجديد "بطلا شرقيا"، لكنه عنوان مرحلة يصبح فيها المسلم واليساري والمهاجر جزءا من المشهد الديمقراطي. وقد لا يكون ممداني زعيما أمميا، ولا مخلّصا سياسيا كما صوّرته بعض القراءات العاطفية، لكنه يحمل في صعوده إشارات إلى تحوّل أعمق في الوعي الغربي نفسه. لقد تسلّل من ثغرة صغيرة في جدار المؤسسة الأميركية، لا ليهدمها بل ليُعيد ترتيب أحجارها.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة