في جولة الصحافة لهذا اليوم، نتناول مقالاً عن هجوم الرئيس الأمريكي على الأمم المتحدة ومن على منبرها، ومقالاً آخر يحذّر من "تمييع النهج الأوروبي" تحت إملاءات اليمين المتطرف، وأخيراً مقالاً عن ضرورة أن تكون أوروبا أكثر صرامة في علاقتها مع موسكو، بدءاً من الاستغناء عن طاقتها وصولاً إلى تحرير الأصول وتسريع التسليح.
نبدأ الجولة من مجلة بلومبيرغ، حيث يرى الكاتب أندرياس كلوث أن خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين كشف بوضوح حجم الفجوة بين الخطاب الأمريكي ورؤية المنظمة الدولية، ففي حين رفعت الرئيسة الجديدة للجمعية العامة شعاراً متفائلاً هو "معاً أفضل"، جاء خطاب ترامب ليعكس مساراً معاكساً أقرب إلى "الانقسام أسوأ".
واستغل ترامب، وفق الكاتب، ظهوره في نيويورك ليتهكم على المنظمة، وقلّل من شأنها بسخرية من خلال الحديث عن أعطال في المصاعد و"قارئ الشاشة"، مقدماً نفسه كـ"صانع سلام" أنهى سبعة حروب بينما الأمم المتحدة - بحسب وصفه - لم تبذل أي جهد لمساعدة أحد.
هذا الخطاب، كما يوضح كلوث، ليس مجرد نزوة، بل يمثل تحوّلاً أوسع في واشنطن من كونها الراعي الأول للنظام الدولي إلى لاعبٍ يهدد بتقويضه.
ويشير الكاتب إلى أن أصواتاً محافِظة في الولايات المتحدة، من بينها السفير الجديد مايكل وولتز، تنظر إلى الأمم المتحدة باعتبارها جهازاً مترهلاً يحرق أموال دافعي الضرائب بلا جدوى، أو منصة "معادية لأمريكا وإسرائيل".
وقد غذّت اجتماعات الدورة الأخيرة للجمعية العامة هذه السردية، وفق الكاتب، إذ ارتفع مستوى الاعتراف بفلسطين حتى من دول حليفة لواشنطن، بينما منعت الإدارة الأمريكية قيادات فلسطينية من الحضور، وذلك في ظل أزمات ممتدة من السودان إلى أوكرانيا.
ويضيف الكاتب أن جوهر الأزمة يكمن في الهجوم المالي والسياسي الأمريكي على المنظمة، حيث لم تسدد واشنطن حصتها النظامية البالغة 22 في المئة من الميزانية، بل استرجعت نحو مليار دولار وقلّصت مساهماتها في عمليات السلام والإغاثة. وبالتوازي، أعلنت الإدارة انسحابها من مؤسسات أساسية مثل منظمة الصحة العالمية، واتفاق باريس للمناخ، واليونسكو ومجلس حقوق الإنسان، إلى جانب رفضها الرسمي لأهداف التنمية المستدامة.
أما في مجلس الأمن، فيظل الشلل قائماً بفعل حق النقض الذي تستخدمه واشنطن وموسكو وبكين بصورة متكررة، ومنها الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار في غزة.
وينقل كلوث عن خبراء أن القوى الكبرى توظف الأمم المتحدة كأداة لـ"غسل السياسات القذرة"، أي أن العرقلة تعود لمصالح هذه القوى، في حين يُلقَى باللوم على المنظمة في نهاية المطاف.
المثال الأبرز هو الملف السوري، حيث عطّلت روسيا تحرك المجلس لكن الانطباع العام بقي أن الأمم المتحدة فشلت في حماية السوريين، حسب الكاتب.
ويختم كلوث باستعادة لحظة التأسيس عام 1945، حين قال هاري ترومان إن المنظمة وُجدت لتكون "آلية معقولة" لحل النزاعات بعيداً عن "القنابل والبنادق"، ولتنقذ البشرية من "الجحيم" لا لتأخذها إلى "الجنة". هذا الجوهر – كما يرى الكاتب – غاب عن خطاب ترامب ومناصريه، الذين جعلوا شعار "أمريكا أولاً" معياراً فوق كل الالتزامات الجماعية. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تتحول الأمم المتحدة إلى كبش فداء لصراعات القوى العظمى بدلاً من أن تبقى منصة لتقليل احتمالات العنف والفوضى العالمية.
ننتقل إلى صحيفة الغارديان ومقال للكاتبين ثو نغوين ويانيك يانسن، قالا فيه إن الرؤية التي بشّرت بها رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين عام 2019 عن "النهج الأوروبي" تتبدد، مشيرَين إلى أن انحناء القادة الأوروبيين لمطالب اليمين المتطرف في الداخل جعل أوروبا أضعف في مواجهة ترامب في الخارج.
وأوضحا أن ما يُسوّق كبراغماتية مع واشنطن بدا لكثيرين استسلاماً غير متكافئ، وأن الإطراء لاتفاق تجاري غير متوازن يعكس اعتلالاً أوسع في منظومة القيم التي يتبناها الاتحاد.
وبيّن الكاتبان أن ملف الهجرة بات مرآة لهذا الاستسلام؛ إذ تؤطر السياسات المهاجرين كتهديد، ويتم التسامح مع عمليات صدّ غير قانونية، وتواجه منظمات الإنقاذ عراقيل، لافتَين إلى أن اتفاقات مع دول تنتهك الحقوق تنقل المسؤولية بعيداً عن أوروبا وتعرّض شنغن لخطر التفريغ.
وأشارا إلى أن الديناميكية نفسها تضرب الطموح المناخي؛ فالصفقة الخضراء يجري تمييعها وتأجيلها تحت ضغط سردية تصوّر المناخ عبئاً على المزارعين والناس العاديين، مع انجرافٍ من بعض أحزاب يمين الوسط لمجاراة هذا الخطاب بدلاً من خوض نقاش ديمقراطي جاد حول الطريق الأمثل.
ولفت الكاتبان إلى أن هذه التنازلات تُبرَّر بواقعية مزعومة: خضوعٌ لترامب "لشراء الوقت"، وتشديدُ الهجرة باعتبار ذلك "إرادة الناس"، وإبطاءُ المناخ إلى حين "لحاق" النمو والابتكار.
وأكد الكاتبان أن كل تنازل يُطبّع ما كان متطرفاً ويقوّض سيادة القانون والديمقراطية عبر القارة، وأن المشكلة لم تعد محصورة بدول بعينها، بل تمتد إلى محاولات لتقييد التظاهر، وتشكيك في القضاء، وحملات لنزع شرعية المنظمات غير الحكومية، ودعوات لإعادة تفسير الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وأبرز الكاتبان أن الانتقائية القيمية تبلغ ذروتها في الاستجابة الأوروبية لغزة؛ إذ إن العجز عن اتخاذ إجراءات ذات مغزى تجاه الانتهاكات أضر بمصداقية الاتحاد، وأن التحركات المتأخرة كتجميد دعم أو اقتراح عقوبات لا تمحو عامين من التردد.
وخَلَصا إلى أن القيم ليست ترفاً يؤجَّل عند الضغط، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة الاستبداد في الداخل وصياغة نظام دولي قائم على القواعد في الخارج؛ وإذا ظل القادة صامتين على أمل تلاشي ترامب، فإنهم يتخلون عن وكالتهم السياسية ويفسحون المجال لليمين المتطرف.
وبحسب الكاتبين، فإن مجاراة اليمين المتطرف لا تحيّده، بل تمنحه شرعية؛ والمطلوب أن تدافع أوروبا عن التعددية وسيادة القانون والمجتمعات المفتوحة والعمل المناخي قولاً وفعلاً، وإلا فقد "النهج الأوروبي" معناه.
ننتقل إلى صحيفة التلغراف، ومقال للكاتب صموئيل رماني، الذي يقول إن لهجة دونالد ترامب تجاه موسكو تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى نبرة أكثر حدة؛ إذ وصف روسيا بأنها "نمر من ورق"، وأعلن إيمانه بإمكان تحقيق "نصر أوكراني كامل" يُعيد الحدود الأصلية، مُشيراً في الوقت نفسه إلى أنه يؤيد إسقاط طائرات روسية تنتهك أجواء دول الناتو، ويتعهّد بالضغط على المجر لوقف شراء النفط الروسي.
وأضاف أن هذا التشدد اللفظي يعكس تزايد ضيق ترامب من فلاديمير بوتين وتراجع رهانه على صفقة سلام سريعة، لكنه لا يعني أن الولايات المتحدة ستتحمّل العبء المالي والعسكري بنفسها؛ بل يُوحي، على نحو مفاجئ، بأن على أوروبا أن تنهض بالمهمة إلى حدٍّ بعيد إذا أرادت كييف الانتصار.
وبيّن رماني أن لأوروبا ثلاث روافع حاسمة لكنها لا تستخدمها بما يكفي لإضعاف اقتصاد الحرب الروسي وتعزيز أفق صمود أوكرانيا.
وأوّل هذه الروافع - بحسب الكاتب - هو انفصال سريع عن الطاقة الروسية؛ فقد أدرج الاتحاد الأوروبي في حزمة عقوباته التاسعة عشرة 118 سفينة من "أسطول الظل" وأطلق تعليقاً متسارعاً لمشتريات الغاز الطبيعي المُسال من روسيا.
ولفت إلى أن الهجمات المسيّرة الأوكرانية أحدثت تراجعاً يقارب 17 في المئة في طاقة تكرير النفط الروسية، وهو ما يعني أن قطع ارتباط الطاقة، ولو بتكلفة قصيرة الأجل على الأسعار، قد يُسرّع إنهاء الحرب عبر خنق موارد الكرملين المالية وتقليص قدرته على شراء الرضا الداخلي.
وأضاف أن الرافعة الثانية تتمثّل في تحويل الأصول الروسية المُجمّدة مباشرة إلى أوكرانيا.
وأوضح أن المخاوف على سمعة النظام المالي الغربي مبرّرة، لكن حجم الأموال قد يُغطي العجز في موازنة كييف ويضخّ تمويلاً فورياً للتسليح وإعادة تأهيل المصانع العسكرية المتضرّرة، وهو ما يرفع كفاءة المجهود الحربي الأوكراني على المدى المتوسّط.
كما أكد أن الرافعة الثالثة هي الشراء المنتظم للسلاح الأمريكي لصالح أوكرانيا، فقبل خطط التمويل الأخيرة، كانت أوروبا عالقة بين استنزاف مخزوناتها أو الانتظار لبناء قاعدة تسليح محلية قادرة.
أمّا الآن، يقول الكاتب، يمكن لأوروبا الالتفاف على اختناقات سلاسل الإمداد التي تُعطّل تحديث قدراتها، ومواصلة دعم كييف بالسرعة المطلوبة عبر التعاقد المباشر على منظوماتٍ أمريكية، الأمر الذي يُبقي أوكرانيا في المعركة أطول فترة، وفي الوقت نفسه يُسرّع تقدُّم القارة نحو حدٍّ أدنى من الاستقلالية الاستراتيجية عن واشنطن.
ولفت رماني إلى أن الدول الأوروبية قادت مبادراتٍ أمنية وإنسانية خارج القارة، بدءاً من ليبيا عام 2011 وصولاً إلى عمليات مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي، ولو بنتائج متباينة؛ لكنها على أرضها تراجعت إلى المقعد الخلفي، خلف الولايات المتحدة، من خلال التقاعس المزمن عن الاستثمار الدفاعي وارتهان القرار المتعلق بالطاقة بروسيا، وهو ما جعلها تبدو أقل من وزنها الحقيقي وتتعرّض لابتزازٍ جيوسياسي.
وبيّن الكاتب أن استمرار هذا النمط يعني أن أوروبا ستظل رهينة لدور التابع، فيما تبقى حرب أوكرانيا مفتوحة على استنزافٍ طويل.
وأكد رماني أن تصريحات ترامب الأخيرة ليست التزاماً أمريكياً مفتوحاً بقدر ما هي نداء عمل لأوروبا، بمعنى أنه إذا أرادت كييف أن تهزم روسيا فعلاً، فعلى العواصم الأوروبية أن تستعيد "عمودها الفقري" السياسي؛ فتسرّع القطيعة مع روسيا، وتنقل الأصول المجمدة، وتؤمّن تدفقات ثابتة من السلاح - عندئذٍ فقط، كما يقول الكاتب، يمكن تحويل ما بدا حلماً بعيد المنال إلى مسار واقعي نحو النصر الأوكراني وتقليص شهية الكرملين للعدوان.