عمّان- نظّمت مؤسسة عبد الحميد شومان في العاصمة الأردنية خلال الأسبوع الجاري احتفالية بعنوان "أمجد ناصر: طريق الشعر والنثر والسفر"، استذكرت فيها المسيرة الإبداعية للكاتب والشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، بحضور أكثر من 14 باحثا من داخل الأردن وخارجه.
وقد أعادت الفعالية قراءة تجربة الراحل من زوايا متعددة، جمعت بين الأوراق الأكاديمية والشهادات الشخصية والقصائد المهداة إلى ذكراه، لتؤكد أن أمجد ناصر لا يزال حاضرا في الشعر والنقد والرحلة رغم رحيله.
على المنصة، تُفتتح الفعالية بكلمة حملت رؤية المؤسسة، إنها تكريم تجربة أمجد بوصفها فرادة شعرية أثّرت في قصيدة النثر العربية. كان التقديم واضحا، فلسنا أمام تأبين، بل إضاءة منهجية على مشروع أدبي متعدد الأجناس، حيث أوضح مدير منتدى شومان الشاعر موفق ملكاوي، في كلمة ألقاها بالنيابة عن الرئيسة التنفيذية للمؤسسة فالنتينا قسيسية، أن الندوة تهدف إلى إلقاء الضوء على التجربة الأدبية المتفردة لناصر، واستكشاف امتداده في جيل الشعراء العرب.
أخذت مكاني في قاعة منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان وذلك في صباح عمّاني يليق بالشعر. على المقاعد كانت وجوه من أجيال متباينة، شعراء، ونقاد، وأصدقاء قدامى، وأهل الشاعر، يحمل كل منهم ذاكرة شخصية مع أمجد ناصر، أو "يحيى النميري النعيمات" ابن المفرق الذي غادر بلاده مبكرا.
حديث الشاعر ملكاوي في الكلمة الرسمية تواصل ليؤكد أن هذا اللقاء ليس رثاء، بل إعادة قراءة لتجربة أدبية جمعت الشعر بالنثر بالرحلة بالمقال. ومنذ اللحظة الأولى بدا واضحا أن ما سيجري هنا هو تفكيك خرائط الشاعر، فثمة 5 جلسات، كل منها محطة في طريق طويل.
في الجلسة الأولى، أضاء النقاد على التجربة الشعرية، فقد قرأ الناقد السوري صبحي حديدي مغامرات الشاعر أمجد ناصر في قصيدة النثر بوصفها "ثلاث مجازفات في الشكل والمحتوى"، وقد أشار حديدي، المعروف بصرامته النقدية، إلى جرأة ناصر في كسر المألوف.
بينما ذهب الأكاديمي الأردني زياد الزعبي إلى صورة الشعر، وأشار الناقد والأكاديمي جمال مقابلة إلى اللمعات النقدية، لتختتم الشاعرة والأكاديمية مها العتوم بالحديث عن مفهوم قصيدة النثر لدى ناصر.
أحسست أن كل ورقة كانت أشبه بمرآة تعكس جانبا من شاعر لم يتوقف عن التجريب.
الجلسة الثانية نقلتنا إلى قضايا الهوية والأسلوب. هنا تحدّث الناقد فخري صالح عن "الأسلوب الأخير" في مملكة آدم، ثم جاءت الأكاديمية ليديا راشد لتفكك لعبة السرد في رواية "حيث لا تسقط الأمطار". أما الباحثة فاطمة محيسن ففتحت نافذة على الرحلة إلى بلاد ماركيز، قبل أن يربط ليث الرواجفة بين القصيدة وأبعادها الثقافية. بدا أمجد في هذه القراءات كمن لا يكفّ عن مزج الذات بالمنفى.
وفي الجلسة الثالثة، كان المقال حاضرا. تحدّث صاحب هذه السطور عن "جمالية المقال الصحفي" عند أمجد، باعتباره نصا مشبعا بالموقف لا مجرد مهنة. وواصل يحيى القيسي ومحمد عبيد الله الحفر في كتابة الذات، ليتضح أن المقال عند ناصر كان امتدادا للشعر، لا حدا فاصلا عنه.
الجلسة الرابعة أعادت الحضور إلى عالم الرواية والرحلة، فكتُبه " هنا الوردة" و"حيث لا تسقط الأمطار" و"خبط الأجنحة" حضرت في أوراق أماني سليمان وعماد الضمور ولينداء عبيد ونداء مشعل. وقد بدت الرواية عند أمجد في شهاداتهم قصيدة ممتدة على صفحات السرد.
أما الجلسة الخامسة فكانت شهادة شخصية أكثر منها بحثا أكاديميا. فقد تحدّث الشاعر السوري نوري الجراح عن الصداقة والهجرة والقصيدة المتمردة، وقدّمت ورقة الشاعر الفلسطيني غسان زقطان -الذي تعذر حضوره شخصيا- صورة ناصر الذي ترك أفكاره في مأمن وكتبه تمشي في الحدائق، قبل أن تقترب ليلى النعيمي، ابنة أخي الراحل، لتضيء لحظة إنسانية خالصة من داخل العائلة.
ما ميّز احتفالية شومان بأمجد ناصر أنها لم تقتصر على البعد الاحتفالي أو القراءات الشعرية، بل انفتحت على حضور بحثي وأكاديمي كثيف من الأردن والعالم العربي، ليقدّم كل مشارك قراءته الخاصة في نصوص الشاعر وسيرته.
هذا التلاقي بين النقاد والأكاديميين الأردنيين والعرب منح الندوة طابع الملتقى العربي، حيث بدا أن تجربة أمجد ناصر ليست محصورة في سياق محلي، بل تُقرأ اليوم كما بدت بوصفها جزءا من المشهد الشعري العربي الكبير، بكل تنوعاته وامتداداته.
بين الأوراق البحثية والجلسات النقدية، كان الحضور يتطلّع إلى ما يتجاوز التحليل الأكاديمي. حيث جاءت الجلسة الخامسة لتسد هذه الحاجة، لنستمع إلى شهادة في الصداقة والهجرة والقصيدة.
تقدّم الشاعر نوري الجراح أولا، فحكى عن أمجد ناصر كما يُحكى عن رفيق طريق، لا عن موضوع دراسة. استعاد معه ليالي المنافي، وحوارات طويلة لم تكن تنتهي عند حدّ الشعر، بل امتدت إلى معنى الحرية، وجرأة التمرّد، وحكمة الرحلة المستمرة. بدا أمجد في شهادته شاعرا لا يفصل حياته عن نصوصه.
ثم جاءت ورقة غسان زقطان، الذي صاغ شهادته بلغة أقرب إلى الشعر منها إلى النثر. قال: "أفكارك في مأمن، وكتابك يمشي في الحديقة"، وهي جملة جعلت القاعة تصغي وكأنها تستمع إلى قصيدة حيّة. في كلماته كان أمجد حاضرا لا غائبا، وكأن كتبه تتجول بالفعل بين الأشجار والناس.
وفي الختام، اقتربت ليلى النعيمي، ابنة أخي الشاعر الراحل، لتقدم شهادة عائلية مؤثرة. لم تكن باحثة ولا ناقدة، بل صوتا يخرج من قلب العائلة، يحمل تفاصيل يومية وصغيرة قد لا يعرفها أحد غيرهم. في كلماتها، كان الغائب عمًّا وأخا وابنا، قبل أن يكون شاعرا أو ناقدا. هذا البُعد الحميمي جعل الجمهور يلتقط الفكرة وهي أن الأدب لا يُفصل عن لحم الحياة ودمها.
بهذه الشهادات، تحولت الندوة من مراجعة نقدية إلى جلسة ألفة، يتجاور فيها النص مع الذكرى، ويتعانق النقد مع الحنين. بدا أن أمجد ناصر، وهو الغائب الكبير، استطاع أن يجمع الأصدقاء والعائلة والجمهور في لحظة واحدة، تجعل الغياب حضورا مضاعفا.
إذا كان محور الندوة النقدية قد أعاد قراءة أعمال أمجد ناصر بعين الباحثين، فإن الأمسية الشعرية التي حملت عنوان "تحية حب إلى أمجد ناصر"، قد أعادت الحاضر إلى الجرح المفتوح، إنه فلسطين وغزة.
فقد افتتح الشاعر يوسف عبد العزيز بقصيدة "رسائل سوداء"، وفيها بدا صوت غزة كثيفا مثل غبار المعركة، في كلمات مشحونة بمرارة الفقد وإصرار المقاومة، لتذكّر المستمعين أن القصيدة ليست مجرّد تمرين جمالي بل شهادة على زمن دموي.
وقد قصر كاتب هذه السطور قراءته على قصائد تحمل جرح غزة حيث يتحول النص إلى شهادة شعرية حيّة على زمن العدوان.
ثم جاء صوت زهير أبو شايب، فاستعاد في نصوصه صورة القوافل والشهداء، وأضاء غزة بوصفها فضاء للكرامة الممتحَنة. كانت قصيدته عن "ليل غزة" تضع الجمهور أمام مشهد تتعانق فيه السماء بالأرض حين يمرّ الشهداء خفافا مضاءين، كأن الموت هناك تحوّل إلى بوابة عبور للخلود.
وحين اعتلت الشاعرة مها العتوم المنصة، أضافت لمسة وجدانية بقراءة قصيدتها التي مرّت مثل نهر هادئ، لكنها كانت محمّلة بمفردات الخسارة والمنفى، قبل أن تلتحق بها وفاء جعبور لتوجّه قصيدتها مباشرة إلى روح أمجد ناصر، وفي طياتها ظِل فلسطين حاضرا كخلفية لا تغيب.
الختام كان مع نوري الجراح، الذي ربط بين وجع الأمكنة وذاكرة الغائب، ليغلق الأمسية على إيقاع يذكّر بأن الشعر، مهما ابتعد في جغرافياته، يعود إلى جرح فلسطين كأصل ومنبع.
في تلك اللحظة، بدا أن حضور أمجد ناصر لم يكن مجرد تكريم لشاعر رحل، بل مناسبة ليجتمع الشعراء حول جرح الأمة المفتوح، ويقولوا بلغتهم المتفرّدة، إن القصيدة ما زالت سلاحا للذاكرة، وإن غزة ليست خبرا عابرا بل معنى يتردد في كل بيت شعري.
بدا واضحا خلال الاحتفالية أن حضور المرأة ومشاركتها ليس مجرد تفصيل ثانوي أو دعوة مفتعلة للتمكين، بل ملمحا بارزا يكاد يلخّص التحوّل الثقافي الأردني والعربي في العقدين الأخيرين. فمنذ البداية، تقف على رأس المؤسسة فالنتينا قسيسية، التي حضرت كصاحبة قرار ثقافي، لتعلن أن مؤسسة شومان بقيادتها تؤمن بضرورة استعادة الأدب من الهامش إلى صدارة النقاش.
وفي الجلسات النقدية، كان لافتا ارتفاع نسبة الأصوات النسائية، بسمة النسور تدير الحوار في الجلسة الأولى، بينما تتقدم مها العتوم بورقتها عن قصيدة النثر عند أمجد ناصر، وبثنية البلخي ترأس الجلسة الثانية، وتقدّم ليديا راشد تحليلها للرواية، ثم فاطمة محيسن التي وسّعت أفق النقاش إلى أدب الرحلة، وأماني سليمان التي قدمت ورقة بحثية مميزة في محور الرواية وهي المعروفة أيضا بوصفها قاصة مبدعة، قبل أن تعود لينداء عبيد ونداء مشعل لقراءة التجربة الروائية بعمق منهجي.
هذه ليست أسماء عابرة، بل باحثات ومبدعات رسّخن صورة المرأة الناقدة والباحثة القادرة على إنتاج معرفة أدبية أصيلة.
وفي الأمسية الشعرية، ارتفع الصوت النسائي مجددا، فقد قدمت مها العتوم ووفاء جعبور قصائد مباشرة إلى روح أمجد، حيث امتزجت الرهافة بالشهادة، والحس الشخصي بجرح الجماعة. بدا واضحا أن القصيدة النسائية هنا لم تُدع لتزيين الأمسية، بل لتشارك في صياغة رسالتها.
هكذا، في هذه الأمسية التي اجتمع فيها أكثر من 14 باحثا وشاعرا، كانت المرأة حاضرة بقوة في الإدارة، والنقد، والشعر. ويمكن القول إن احتفالية أمجد ناصر لم تُكرّم شاعرا فحسب، بل قدمت نموذجا لمشهد ثقافي تزداد فيه مساهمة النساء عمقا وتأثيرا.
ما رأيته من مشاركة نسائية، هو صفوة الأكاديمية الأردنية الشابة، تتقدمه مبدعات متمكنات من علمهن وعملهن، ومطلات بالفعل على المشهد الثقافي ومفرداته وتاريخه.
ومن جهة أخرى، لم تكن احتفالية شومان عن أمجد ناصر مجرّد ندوة أكاديمية، ولا أمسية شعرية عاطفية، لكنها مزيج محسوب بين الاثنين، إنها العقل الذي يقرأ النص، والقلب الذي يتجاوب معه.
في الجلسات الخمس، غلب الطابع البحثي والأكاديمي، فثمة أوراق منهجية بأسماء وموضوعات دقيقة، عناوينها تحمل لغة البحث ومصطلحاته. بدا وكأن القاعة تحوّلت إلى مختبر أدبي، يتفحص النصوص ويعيد تركيبها أمام الجمهور. هذه الجلسات وفّرت مادة معرفية متينة للباحثين والطلاب، وأعادت وضع تجربة أمجد ناصر في سياق نقدي عربي أوسع.
لكن حين أُطفئت أجهزة العرض وأُزيلت الأوراق، وجاء دور الأمسية الشعرية، تبدّل الإيقاع، حيث صارت القصائد تُلقى من على المنصة لا لتُحلّل بل لتُسمع، لا لتُفكك بل لتُعاش. هنا تحرّر الجمهور من قيود المناهج، وانفتح على القصيدة بصوتها الحي، بما تحمله من وجع وغضب وحلم.
هذا التناوب بين العقل النقدي والوجدان الشعري لم يكن عارضا، بل جزءا من تصميم الاحتفالية نفسها، أن يُقرأ أمجد ناصر في نصوصه المتعددة، وأن يُستعاد بروح البحث وروح الشعر معا. لقد بدا واضحا أن احتفالية المؤسسة أرادت أن تقول إن الكاتب الكبير لا يُحتفى به من زاوية واحدة، بل من زوايا متكاملة تُبرز اتساع مشروعه.
خرج الجمهور في النهاية بانطباع مزدوج، مادة نقدية رصينة تصلح للتوثيق الأكاديمي، وتجربة وجدانية تجعل أمجد حاضرا في القلب. بهذا التوازن، نجحت الاحتفالية في أن تكون حدثا ثقافيا شاملا، يليق بشاعر عاش حياته متنقلا بين الأجناس الأدبية والبلدان، وترك أثرا متعدد الوجوه، تماما كما عكسته هذه الأمسية.
الشاعر الأردني حسين جلعاد خلال مشاركته في احتفالية شومان (الجزيرة)وأنا في طريقي إلى المطار للمغادرة، ظلت معي أصوات المشاركين والحضور في القاعات، ففي الهواء شيء يشبه أثر الرحلة؛ إذ اجتمع النقاد ليعيدوا بناء النصوص بعيون جديدة، وجاء الأصدقاء والأهل ليرسموا ملامح الشاعر في شهاداتهم، وأنشد الشعراء ليُعيدوا صوت أمجد ناصر حيًا من خلال قصائده، وكأن كل واحد منهم قد أضاء زاوية من عالمه لتكتمل الصورة.
في النهاية، رسمت احتفالية شومان طريقا آخر في سيرة شاعر عاش حياته سائرا، فمن المفرق إلى بيروت ثم قبرص، وبعدها إلى لندن، ومن قصيدة النثر إلى المقال والرحلة والرواية. بدا أمجد ناصر حاضرا في عمّان تلك الليالي كأنه يقول "أنا هنا، ما دمتُ في لغتكم".