تشهد صناعة المحتوى الرقمي المدفوع عبر المنصات الاجتماعية انتشارًا واسعًا، لتصبح من أبرز أشكال التعبير في العصر الحديث عربيًا وعالميًا. وفي ليبيا، ورغم دخولها المتأخر إلى هذا المجال، سرعان ما تحوّل المحتوى الرقمي إلى وسيلة للتعبير السياسي والاجتماعي والثقافي، وفضاء بديل للمشاركة والتأثير.
غير أن حداثة التجربة جعلت الساحة الرقمية الليبية مفتوحة بلا ضوابط واضحة أو آليات مراجعة، ما أضفى عليها طابعًا عفويًا وأدى إلى تفاوت في جودة المحتوى وصدقيته.
رغم طوفان المحتوى السطحي الذي يغمر الفضاء الرقمي الليبي، يبرز صوت مختلف يمثله الشاب محمد النعاس، الذي استطاع أن يقدم نموذجًا مميزًا في توظيف المنصات الرقمية لتجديد الخطاب البصري وإحياء النقاش في قضايا الهوية والوعي.
النعاس، البالغ من العمر 25 عامًا ويدرس في كلية الفنون بجامعة طرابلس، لفت الأنظار بعمله الشهير "رحلة الزوز دينار"، الذي اختصر في دقائق معركة رمزية بين لقمة المواطن البسيطة -دينارين- وآلة الحرب التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي. في هذا العمل قدّم النعاس قراءة بصرية ناقدة تربط بين الوعي الاستهلاكي ومعركة التحرر، ليصوغ منها رؤية فنية تتجاوز الحدود المحلية، ويكرّس مكانته كأحد أبرز صانعي المحتوى الهادف في ليبيا.
يقول محمد النعاس في حديثه لـ"الجزيرة نت" إن صناعة المحتوى في ليبيا، رغم نشأتها في ظروف متقلبة، تسير بخطى ثابتة نحو مزيد من النضج والوضوح. ويرى أن الانطلاقة الحقيقية لهذا المجال بدأت مع دخول شركات الإعلان إلى الساحة خلال السنوات الأخيرة، حيث مثّل ظهورها نقطة تحول بارزة أسهمت في تحسين جودة الإنتاج وتطوير أدوات العمل، لتصبح الإعلانات التجارية المدخل الأول لصناعة المحتوى الرقمي المحلي.
ويشير النعاس إلى اختياره من اللجنة المنظمة لمسابقة "جوائز صانعي المحتوى الرقمي" Digital Creator Awards المقامة في قطر، موضحًا أنه تلقّى دعوة رسمية للمشاركة ضمن فئة من فئات المسابقة التي تُعنى بتكريم المبدعين وصنّاع التأثير الرقمي في المنطقة العربية، ويقول: "تلقيت دعوة رسمية من المنظمين للمشاركة وقررت خوض التجربة".
يتحدث محمد النعاس عن التحديات التي تواجه صانعي المحتوى في ليبيا، مشيرًا إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في غياب منظومة مؤسسية تحتضن المبدعين وتدعمهم. فصانع المحتوى -كما يقول- يعمل في فضاء مفتوح يفتقر إلى الدعم المالي والبنية التقنية، ما يجعله يعتمد على جهوده الذاتية لضمان استمراريته.
ويضيف في حديثه لـ"الجزيرة نت"، أن انغلاق السوق المحلية وضعف شبكات التعاون بين صناع المحتوى أسهما في بقاء التجارب ضمن نطاق ضيق، رغم ما تمتلكه من إمكانات كبيرة قادرة على المنافسة إقليميا.
رغم عدم تأهله للمراحل النهائية، يرى محمد النعاس أن مجرد اختياره للمشاركة في جوائز صانعي المحتوى الرقمي (Digital Creator Awards) يُعد اعترافًا عربيًا بأن المحتوى الليبي بدأ يفرض حضوره في الساحة الإعلامية الإقليمية. وقال في حديثه لـ"الجزيرة نت": "الفرصة لا تُقاس بالنتائج، بل بقدرة الفكرة على الوصول والتأثير".
وفي اختتام حديثه، أكد النعاس أن ليبيا تزخر بطاقات شبابية تمتلك القدرة على المنافسة بأفكارها المبدعة، وليس فقط بإمكاناتها التقنية. ويرى أن مستقبل صناعة المحتوى في البلاد يتوقف على قدرة هذا الجيل على تحويل الوعي الفردي إلى مشروع ثقافي جماعي يُعيد للمحتوى مكانته كأداة للفهم والتنوير، لا مجرد وسيلة للضجيج.
كما دعا النعاس إلى:
يتوقف محمد النعاس، في حديثه عن بيئة المنصات الرقمية، عند ما يصفه بـ"أكبر التحديات التي تواجه المحتوى الهادف"، موضحًا أن خوارزميات النشر تميل بطبيعتها إلى تفضيل المواد السطحية والسريعة الانتشار على حساب المحتوى العميق والقيمي.
ويقول النعاس في حديثه لـ"الجزيرة نت"، إن هذا الواقع يضع صانع المحتوى أمام معادلة صعبة، تتطلب منه الموازنة بين الحفاظ على جوهر الفكرة وضمان الوصول إلى الجمهور. ويؤكد أن "المحتوى الهادف لا يُقصي الترفيه، بل يعيد توجيهه ليخدم الرسالة بدل أن يفرغها من معناها" .
في سياق محاولة وضع صناعة المحتوى الرقمي في ليبيا ضمن الإطار الأكاديمي للإعلام الحديث، يرى رئيس جامعة الإعلام الجديد في بنغازي، طارق الأوجلي، أن هذه الصناعة لا تزال في طور التشكّل، وتوصف بأنها "هجينة". فهي تجمع -كما يقول- بين أدوات الإعلام الرقمي الحديثة مثل منصات التواصل الاجتماعي وما توفره من سرعة في النشر وتفاعل مباشر، وبين محتوى لا يزال حبيس الأساليب التقليدية في الخطاب والتوجيه، ما يجعل المشهد أقرب إلى ما يُعرف في الأدبيات الإعلامية بـ"الإعلام الانتقالي".
ويضيف الأوجلي في حديثه لـ"الجزيرة نت"، أن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية تقع على عاتقها اليوم مسؤولية قيادة هذا التحول، من التعليم القائم على التلقين والتدريب التقني إلى بناء مهارات التفكير الإبداعي وصياغة رسائل ذات أثر اجتماعي مستدام. ويختتم، إن المطلوب هو الانتقال من صانع محتوى إلى صانع أثر.
يرى عبد الجواد الدرسي، المحاضر بكلية الإعلام في جامعة بنغازي، أن صناعة المحتوى الرقمي في ليبيا لم تشهد انتشارًا واسعًا إلا خلال العقد الأخير، ولا تزال أقل تطورًا مقارنة بالتجارب العربية الأخرى. ويُرجع ذلك إلى خصوصية التجربة الليبية التي نشأت وسط تحولات سياسية واجتماعية عميقة أعادت تشكيل المشهد الإعلامي، ودفعت باتجاه تصاعد دور الإعلام البديل والمنصات الاجتماعية. ويؤكد الدرسي أن فهم هذه الصناعة لا يمكن فصله عن تلك التحولات، خاصة الإعلامية منها.
أما رئيس جامعة الإعلام الجديد في بنغازي، طارق الأوجلي، فيرى أن المشهد الرقمي الليبي بحاجة ماسة إلى ضوابط ومعايير تنظم صناعة المحتوى وتحد من الفوضى المنتشرة. ويشدد في حديثه لـ"الجزيرة نت" على ضرورة إقرار ميثاق شرف إعلامي يضمن المصداقية ويواجه التضليل وخطاب الكراهية، داعيًا الأكاديميين إلى المساهمة في صياغته ليكون مرجعية وطنية تعزز روح المبادرة والانتماء.
ويضيف الدرسي أن أبرز التحديات الأكاديمية تكمن في ضعف البنية التحتية التقنية وغياب البيئة السياسية والاجتماعية التي تضمن حرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومة، معتبرًا أن هذه الشروط أساسية لبناء محتوى رقمي قادر على منافسة الإعلام التقليدي والتفوق عليه في التأثير والانتشار.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة