آخر الأخبار

 قراءة صنعاء للتطورات في حضرموت والمهرة

شارك

هذه القراءة ترى أن تحركات المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة ليست منفصلة عن مسار تفاوضي ظلّت صنعاء تضع فيه شرطًا ثابتًا منذ سنوات: خروج كل القوات الأجنبية من كل شبر يمني. وبقدر ما يقترب أي مسار سياسي من وضع هذا الشرط في مركز التسوية، بقدر ما تتزايد محاولات خصوم صنعاء لتفكيكه عمليًا، ليس عبر نقاشه على الطاولة، بل عبر ضربه من الأرض عبر فرض أمر واقع.

والحقيقة ان ما يجري هو نتيجة “تفاهم سعودي–إماراتي” على تقاسم وظائف النفوذ، لا على تقاسم الجغرافيا فقط، وأن واشنطن وتل أبيب تملكان مصلحة في أن تنتهي اليمن إلى وضع “قابل للإدارة الخارجية” من خلال كيانات محلية متنافسة، بحيث لا تتشكل دولة يمنية موحدة تمتلك قرارها السيادي على الممرات البحرية وعلى شريطها الساحلي وعلى مواردها الاستراتيجية.

هذه الفرضية تُطرح كمنطق مصالح: السعودية تريد ضمان نفوذها البري والاقتصادي في الشرق، وتأمين ممرات وحدود وعمق جيوسياسي يطل على بحر العرب، والإمارات تريد ضمان نفوذها البحري–المينائي عبر وكلاء محليين يملكون سيطرة فعلية على نقاط حساسة، والولايات المتحدة تريد منظومة أمن إقليمي تمنع أي قوة يمنية مستقلة من امتلاك هامش تعطيل في البحر، فيما ترى إسرائيل ــ وفق هذا التقدير ــ أن أي تفكك للفضاء اليمني إلى كيانات متنازعة يقلل احتمالات تشكل قوة موحدة يمكن أن تؤثر على معادلة البحر الأحمر وباب المندب في أوقات التصعيد الإقليمي.

عندما تُقرأ المصالح بهذا الشكل، يصبح فرض الأمر الواقع عبر الانتقالي “خدمة وظيفية” ضمن مشروع أكبر، وليس مجرد رغبة انفصالية محلية.

إن حضرموت والمهرة هما مركز الثقل الاقتصادي والحدودي الذي يتيح لأي كيان ناشئ أن يملك مصادر دخل وسلطة على منافذ وطرق

كما ان السيطرة على منشآت مرتبطة بالطاقة أو على معابر حدودية، أو فرض حضور عسكري في مدن حساسة، كلها إجراءات تُقرأ في هذا التقدير على أنها تأسيس لـ“دولة داخل الدولة” أو “سلطة فوق السلطة”، تمهيدًا لأن يُقال لاحقًا: الجنوب له مؤسساته وموارده وحدوده، وبالتالي يمكن له أن يدخل في ترتيبات أمنية “دولية” أو “إقليمية” بحجة الاستقلال أو الحكم الذاتي. وبذلك يتحول شرط صنعاء “خروج القوات الأجنبية” إلى شرط قابل للالتفاف: لأن الوجود الأجنبي سيُعاد تعريفه بوصفه وجودًا بطلب “كيان جنوبي” لا وجودًا على أرض يمنية واحدة.

في المقابل، صنعاء ــ وفق هذا التقدير ــ تتعامل مع المشهد بصمت محسوب وهذا الصمت لا يعني تجاهلًا ولا يعني عجزًا، بل يعني أنها لا تريد أن تنزلق إلى ردود فعل تفصيلية تُعطي خصومها فرصة نقل مركز النقاش من سؤال السيادة إلى سؤال “صراع داخلي جنوبي”، ولا تريد أن تمنح شرعية مجانية للمعادلة الجديدة باعتبارها أمرًا واقعًا مكتملًا.

لذلك فهي تفهم أن خصومها يريدون استدراجها إلى أحد خيارين سيئين: إما الانشغال بخصم محلي (الانتقالي) بما يخفف الضغط على الرعاة الفعليين، وإما الدخول في تصعيد مبكر يُستخدم لتبرير مزيد من التدويل والتموضع الأجنبي تحت عنوان “حماية الجنوب والشرق”.

بالتالي تفضّل صنعاء ــ بحسب هذا التقدير ــ تثبيت تعريفها للصراع: المشكلة ليست جنوبًا ضد شمال، ولا مايسمى “شرعية” ضد “انصار الله ”، بل مشكلة احتلال/وصاية/تدخل خارجي يريد إعادة إنتاج نفسه بأشكال جديدة. ومن هنا يبقى شرط خروج القوات الأجنبية ثابتًا ومعلنًا، مع ربطه بكل الملفات الأخرى: الاقتصاد، الرواتب، الموانئ، المطارات، وحق اليمن في إدارة ثرواته.

اذن القراءة في صنعاء تذهب أبعد من ذلك: ترى أن أي توسع في حضرموت والمهرة يهدف أيضًا إلى “كسر” بند السيادة الاقتصادية الذي يُعد في نظرها جزءًا من الحرب.

فعندما تُحرم مناطق سيطرة حكومة الانقاذ من عائدات النفط والغاز، وعندما تُستخدم الموارد كورقة ضغط في التفاوض، يصبح الاقتصاد استمرارًا للحرب بوسائل أخرى.

وإذا انتقل التحكم في هذه الموارد إلى يد سلطة انفصالية مدعومة خارجيًا، فإن النتيجة ستكون تحويل الاقتصاد إلى قاعدة تمويل لمشروع سياسي مناهض لفكرة اليمن الواحد، وفي الوقت نفسه تحويله إلى أداة لإجبار صنعاء على القبول بتسوية ناقصة: تسوية تُبقي البلاد مجزأة وتُبقي القرار السيادي موزعًا.

لذلك تُقرأ حضرموت في هذا التقدير باعتبارها “العقدة”: من يملك حضرموت يملك القدرة على شراء الولاءات عبر الخدمات والرواتب، ويملك القدرة على تقديم نفسه كحكومة فعلية، ويملك القدرة على التحكم بمسارات الطاقة، ويملك القدرة على إدارة “السلام” بمعناه الإداري لا بمعناه الوطني.

أما المهرة، فقراءتها في صنعاء أكثر حساسية فهي ساحة تنافس إقليمي قديم على معنى الحدود والمنافذ، وعلى خطوط الإمداد والتجارة، وعلى النفوذ في بحر العرب. أي تحول في المهرة نحو سلطة أمر واقع موالية لمحور خارجي يعني عمليًا إنشاء بوابة برية–بحرية جديدة خارج سيطرة الدولة اليمنية الموحدة، ما يفتح الباب أمام ترتيبات أمنية ومعلوماتية، ويمنح الراعين الإقليميين قدرة أكبر على الحركة بعيدًا عن أي رقابة وطنية.

لذلك تُقرأ المهرة في هذا التقدير كجزء من مشروع “تحييد” الشرق: جعل الشرق خارج معادلة السيادة اليمنية، وتحويله إلى منطقة نفوذ شبه مستقلة يمكن إدارتها عبر وكلاء محليين وغطاء سياسي انفصالي.

ضمن هذه القراءة، “الاتفاق السعودي–الإماراتي” لا يُقدَّم على أنه انسجام كامل، وانما على أنه توزيع أدوار مع قابلية للتنافس عند التفاصيل. بمعنى: قد تختلف الرياض وأبوظبي على حدود النفوذ، وقد يختلفان على أسماء القيادات المحلية، وقد يختلفان على توقيتات الإعلان السياسي، لكنهما ــ بحسب هذا التقدير ــ يتفقان على الهدف الأكبر: منع صنعاء من ترجمة شرط خروج القوات الأجنبية إلى واقع، عبر خلق وضع جديد يجعل التفاوض على السيادة مستحيلًا أو مكلفًا جدًا.

ولذلك لا يُنظر إلى توسع الانتقالي على أنه “تمرد” على السعودية فقط أو على مايسمئ “الشرعية” فقط، بل يُنظر إليه كجزء من هندسة أكبر تسمح للرياض بالاحتفاظ بنفوذها في مناطق، وتسمح لأبوظبي بتعزيز نفوذها عبر الانتقالي في مناطق أخرى، بينما تُستخدم “الشرعية” كغطاء قانوني متحرك عندما يلزم، وكواجهة يمكن تجاوزها عندما تعيق الخطة.

وعتدما نقول بان مايجري في حضرموت والمهرة هو باشراف امريكي واسرائيلي وتنفيذ سعودي واماراتي لان امريكا واسرائيل ترى اليمن ضمن خريطة أمنية بحرية أكبر، وتتعامل مع أي قوة يمنية مستقلة قادرة على التأثير في خطوط الملاحة بوصفها عامل تهديد ينبغي احتواؤه، سياسيًا أو اقتصاديًا أو أمنيًا.

وإسرائيل، في تقدير صنعاء، تعتبر أن أي فضاء يمني موحد يمتلك قرارًا سياديًا قد يتحول في لحظات الإقليم الساخنة إلى عامل ضغط على إسرائيل أو على حلفائها، لذلك تفضّل بيئة يمنية مفككة لا تستطيع إنتاج قرار سيادي موحد، بل مجموعة سلطات محلية تحتاج إلى حماية خارجية. هذا النوع من “الإشراف” يظهر عادة عبر دعم مسارات أمنية إقليمية، وعبر ضبط إيقاع الصراع بحيث لا يصل إلى نهاية سيادية كاملة لليمن، بل إلى “إدارة أزمة” طويلة.

في ضوء ذلك، موقف صنعاء ــ كما تصوغه هذه القراءة ــ يقوم على ثلاثة مبادئ عملية: أولًا تثبيت شرط خروج القوات الأجنبية كشرط تأسيسي لا يساوم عليه، وليس كبند قابل للمقايضة بحوافز اقتصادية أو سياسية قصيرة الأجل.

ثانيًا رفض تحويل الانفصال إلى مظلة شرعية لتموضع أجنبي؛ لأن أي اعتراف بأمر واقع انفصالي سيعني عمليًا الاعتراف بحق كيانات محلية في منح “تراخيص سيادة” للخارج، وهو ما يلغي فكرة الدولة اليمنية.

ثالثًا الاحتفاظ بأدوات الضغط كجزء من الردع، مع اختيار التوقيت والشكل الذي يمنع الخصم من تحويل الضغط إلى ذريعة للتدويل.

من ناحية التفاوض، صنعاء ترى أن ما يحدث في حضرموت والمهرة يراد به أيضًا تعديل من يجلس على الطاولة: بمعنى أن الانتقالي يريد أن يدخل أي مسار سياسي بوصفه “ممثل الجنوب” لا بوصفه طرفًا ضمن أطراف، والسعودية تريد أن تدخل بوصفها “راعية سلام” لا بوصفها طرفًا متدخلًا، والإمارات تريد نفوذًا معترفًا به عبر الوكيل، والولايات المتحدة تريد إطارًا يحمي “الأمن البحري”، وإسرائيل تريد بيئة تمنع اليمن الموحد من امتلاك قرار ضغط.

في المقابل، صنعاء تريد إطارًا يعيد تعريف الجميع: السعودية والإمارات كدول معتدية عليها دفع التعويضات جراء عدوانها والجنوح الى السلام وهي، في قراءتها للمشهد، ترى أن ما يجري هو محاولة واضحة لدفع اليمن إلى الخيار الثاني، عبر تفاهمات إقليمية تعمل تحت سقف مصالح أمريكية–إسرائيلية، وعبر أدوات محلية تتقدم في الميدان لتصنع واقعًا يُراد له أن يصبح قانونًا.

في النهاية، تتعامل صنعاء مع ما يجري بوصفه مرحلة في حرب متعددة الأشكال: حرب عسكرية حينًا، وحرب اقتصادية حينًا، وحرب خرائط حينًا ثالثًا. والشرط الذي تطرحه منذ سنوات ــ خروج القوات الأجنبية ــ ليس بندًا تفاوضيًا يمكن تجميده أمام ضغط اللحظة، بل هو جوهر التسوية من منظورها.

لذلك فإن أي محاولة لفرض “جنوب انفصالي” يسمح بتموضع أجنبي دائم ستُقرأ في صنعاء كنسف لمسار السلام نفسه، وسيظل خيار التصعيد ــ بالمعنى العسكري والردعي العام ــ حاضرًا كأداة لمنع تثبيت هذا المسار، لأن القبول به يعني، في حساباتها، الاعتراف بأن اليمن فقد حقه في أن يكون دولة كاملة السيادة.

- نقلا عن عرب جورنال



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا