يُظهر المشهد الميداني أن السيطرة على الموارد سبقت أي مشروع سياسي متكامل. فتمدد المجلس الانتقالي الجنوبي، بدعم إماراتي واضح، لم يكن مجرد توسع عسكري، بل إعادة رسم للخريطة الاقتصادية: منشآت نفطية، موانئ، مطارات، وسواحل مفتوحة على أهم الممرات البحرية العالمية.
هذا التحول نقل الصراع من كونه سياسياً عسكرياً إلى صراع على العائدات، حيث تحولت الثروة من رافعة محتملة لمعالجة الانهيار المعيشي، إلى ورقة ابتزاز سياسي وضمانة نفوذ طويل الأمد. والنتيجة المباشرة لذلك كانت شللاً شبه كامل لوظائف حكومة الشرعية، وفقدانها القدرة على إدارة الإيرادات أو حتى تمثيل نفسها كسلطة اقتصادية قابلة للحياة، وهو ما تُرجم دولياً بتراجع الغطاء المالي والمؤسسي، وصولاً إلى تعليق أنشطة صندوق النقد الدولي.
رغم انخراط الرياض وأبوظبي في تحالف واحد اسماً، إلا أن ما يجري شرق اليمن يكشف عن تباين عميق في الأهداف والأدوات. الإمارات اختارت مقاربة الحسم عبر "وكلاء محليين" يفرضون أمراً واقعاً على الأرض، مع تركيز واضح على الموانئ والسواحل وحقول الطاقة. في المقابل، بدت السعودية معنية بإدارة التوازن لا كسره، خشية انزلاق الوضع إلى مواجهة مفتوحة تُضاعف كلفة أمنها الحدودي وتفقدها ما تبقى من مكاسب سياسية.
هذا التباين لا يعني صداماً مباشراً بين الطرفين، بل تقاسم مرن للأدوار، يجعل من الجنوب– وخصوصاً المناطق الشرقية– مساحة نفوذ موزعة، لا دولة مستقلة ولا وحدة سيادية حقيقية. وهو ما يفسر بروز سيناريو "الوحدة الشكلية والانقسام الاقتصادي"، حيث تبقى الخارطة واحدة، بينما تتعدد مراكز القرار والعائد.
في الخلفية، لا يمكن تجاهل الدور الأمريكي، الذي يبدو– وفق مؤشرات عديدة– معنياً بإعادة ترتيب المجال الجغرافي اليمني بما يخدم أمن الممرات البحرية وحسابات الصراع الإقليمي الأوسع، خصوصاً ما يتعلق بأمن إسرائيل. فتركيز القوات حول منابع الثروة والسواحل، مقابل تفريغ المدن من مضمونها السيادي، يعكس نموذجاً مألوفاً لإدارة النزاعات: تفكيك الدولة بدون إعلان إسقاطها.
هذا النهج يُبقي اليمن في حالة "لا حرب ولا سلام"، ويحول مدنه إلى ساحات صراع داخلي على تمويل خارجي محدود، بينما تُدار الثروة خارج أي عقد اجتماعي وطني، في تكرار لنماذج شهدتها دول أخرى في الإقليم.
تكشف تجربة الشرق اليمني حقيقة جوهرية: الثروة حين تُفصل عن السيادة، تتحول من نعمة إلى لعنة. فالصراع الدائر ليس حول هوية الجنوب أو شكل الدولة فحسب، بل حول من يمتلك قرار النفط والموانئ والممرات.
في النهاية، قد تختلف المسارات، لكن البوصلة واحدة: من يسيطر على الثروة، يحدد شكل اليمن القادم. والسياسة، بكل خطابها وضجيجها، ليست سوى الطريق الأكثر كلفة للوصول إليها.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية