ويُقرّ تقرير تحليلي صادر عن مجلة "مارينز غازيت" التابعة لـ "جمعية مشاة البحرية الأمريكية"، تحت عنوان "دروس من عدو غير محتمل"، بأن ما حدث في البحر الأحمر يمثل "صدمة عقائدية" هزّت مفاهيم القوة التقليدية، فبينما كانت الولايات المتحدة تركز على صراعات الأنداد، تمكنت قوات صنعاء، بوصفها فاعلاً غير حكومي، من تحقيق آثار استراتيجية عالمية دون امتلاك أي أصول تقليدية (لا بحرية ولا قوة جوية ولا قدرات فضائية)، مما دفع واشنطن إلى الاعتراف بـ "تفوق عملياتي" لما اعتبرته "قوات بدائية"، حيث أن هذه المواجهة، أجبرت المؤسسة العسكرية الأمريكية على تجاوز سنوات من التقاليد، واستمداد الدروس من مصدر كان يُعد في السابق غير جدير بالدراسة.
معادلة التكلفة التي أحرجت واشنطن
لم يكن الناتج الاستراتيجي الأهم لقوات صنعاء في تدمير الأصول، بل في فرض معضلة اقتصادية وعسكرية لا تُحتمل على أسطول عالمي كان يُعتقد أنه لا يُقهر. وقد وصف كاتب التحليل "الكابتن تايلر سي. جان" هذه الظاهرة بأنها "عدم تماثل استراتيجي: التكلفة مقابل النتيجة".
وبحسب التحليل فقد أظهرت قوات صنعاء تفوقاً حاسماً في "اللاتناظر الاستراتيجي" فمقابل استخدامهم لـطائرات مسيرة رخيصة لا تتجاوز تكلفتها 10,000 دولار وصواريخ كروز لا تتجاوز قيمة الواحد منها 100,000 دولار، تُجبر المدمرات الأمريكية على إطلاق صواريخ اعتراضية متطورة مثل صواريخ SM-2 و SM-6، التي تتراوح قيمتها بين مليون و4 ملايين دولار لكل هدف، وهذا الاستنزاف المادي يمثل عبئاً هائلاً على ميزانية الدفاع الأمريكية، محولاً الدفاع اليومي إلى خطة غير مستدامة على المدى الطويل.
وكشفت التقديرات أن العمليات الدفاعية الأمريكية في المنطقة كلفت واشنطن مليارات الدولارات في الذخائر والنفقات التشغيلية والتكاليف غير المباشرة (إعادة توجيه الشحن وارتفاع أقساط التأمين). وهذا التفوق في فرض التكلفة هو ما حوّل المعركة إلى هزيمة استراتيجية للولايات المتحدة.
وأضاف التحليل أن قوات صنعاء أثبتت فعاليتها في استخدام أسراب الطائرات المُسيّرة والذخائر المتسكعة لإغراق أنظمة الدفاع الجوي واستنزافها، مما أدى إلى تحقيق نجاحات حركية غير قابلة للإنكار، مثل غرق السفينة التجارية MV Tutor وتعطيل ناقلة النفط مارلين لواندا. لافتا إلى أن هذا النموذج التهديدي الطبقي والبسيط تكتيكياً- لكنه ذكي استراتيجياً- أربك صانع القرار الأمريكي.
صدمة التكتيك والعمى الاستخباري
أحد أهم جوانب أداء قوات صنعاء الذي سبب الصدمة للمؤسسة العسكرية الأمريكية هو القدرة على البقاء والتخفي، مما أحبط محاولات الحسم الأمريكية المتكررة. ووصف الكاتب هذا الجانب بـ"البقاء من خلال البساطة".
ويقر التحليل الأمريكي بـ"الفشل" في القضاء على منصات الإطلاق، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة لم تتمكن من القضاء على هذه الأنظمة بصفة دائمة قبل إطلاقها، على الرغم من وجودها القوي في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع "، مضيفا إن هذا العجز يُسلط الضوء على قصور التكنولوجيا الأمريكية في مواجهة تكتيكات "أطلق ثم اهرب" المتقنة في التضاريس اليمنية المعقدة.
ويذكر التحليل أن قوات صنعاء تعتمد على شبكة موزعة ومتحركة من منصات الإطلاق، واستخدام "التحكم في الانبعاثات" من لطائرات المسيرة والصواريخ، والتفرق الفوري بعد الإطلاق، وإخفاء القاذفات في الكهوف أو التضاريس الوعرة، مما يجعلها بعيدة المنال بشكل مذهل. مضيفا: "لقد أثبتوا أن البقاء في المعارك الحديثة لا يقتصر على الدروع أو التخفي، بل يشمل صعوبة العثور على القوة، وسرعة إطلاقها، وسرعة اختفائها".
وبالنسبة لنظام الأسلحة، الذي وصفه التحليل بـ "المعقد"، فيقول التحليل إن قوات صنعاء خلقت "معضلة أسلحة مشتركة بحرية" عبر الجمع بين الصواريخ الباليستية، وصواريخ كروز، والطائرات المسيّرة، والزوارق الانتحارية، مما أجبر السفن الأمريكية على تشتيت دفاعاتها ضد تهديدات متعددة ومتنوعة.
التعلم بعد الهزيمة: المارينز يستعيرون التكتيكات
في أقسى أشكال الاعتراف بالهزيمة العملياتية، يكشف التقرير أن سلاح مشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، وتحديداً وحداته المخصصة لصراعات القوى العظمى (MLR)، أصبح مُجبراً على التعلم وتكييف عقيدته بناءً على نجاحات قوات صنعاء
وفيما أسماه التعلم القسري من "العدو غير المتوقع"، يدعو التقرير قوات مشاة البحرية الأمريكية إلى "الاستعداد لدراسة حتى أكثر المصادر غير المتوقعة" والتحلي بـ"التواضع لإدراك أن الابتكار غالبًا ما ينبع من أطراف ساحة المعركة"، كما يُشجع التقرير المارينز على تبني تكتيكات "القوة المتمردة" في صراع الأقران، واستخدام "أنظمة قابلة للاستهلاك ومنخفضة التكلفة" لفرض التكلفة والتشبع على العدو، بدلاً من الاعتماد المفرط على الأنظمة عالية التقنية والقديمة.
وبحسب التقرير، فإن البحرية الأمريكية تسعى لنسخ مفهوم قوات صنعاء في استغلال شبكات الرصد المدنية (مثل الصيادين) لتوسيع نطاق الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، معترفاً بأن هذه الوسيلة الرخيصة والدائمة تفوقت على منصات ISR الأمريكية المكلفة.
وفي ختام تقريره، يؤكد الكابتن تايلر سي. جان أن قوات صنعاء برهنت على أن "النفوذ العملياتي لا يأتي فقط من القدرة ولكن أيضًا من العقلية" و"الخيال العملياتي"، لافتا إلى أنها أجبرت أقوى جيش في العالم على مراجعة مفاهيمه، والتسليم بأن "الفعالية على التقاليد" هي مفتاح الانتصار في حروب المستقبل، حتى لو كان المعلم هو عدو غير متوقع.
المصدر:
البوابة الإخبارية اليمنية