لطالما روّجت بعض الأنظمة العربية لفكرة أن التطبيع مع الكيان الصهيوني قد يساهم في تحقيق الاستقرار أو حتى حماية سيادة الدول. غير أن ما جرى في قلب الدوحة، وهي دولة خليجية ذات علاقات اتصالية مع أطراف دولية وإقليمية متعددة، يثبت سقوط هذا الوهم، فالكيان الإسرائيلي لم يتردد في تنفيذ عملية عدوانية في عاصمة عربية، ضارباً عرض الحائط بكل الحسابات الدبلوماسية والسياسية، بما في ذلك مواقف دول الخليج التي اختارت الحياد أو الوساطة.
هذا العدوان ليس مجرد تجاوز، بل هو إهانة سياسية مباشرة، ورسالة استخفاف بسيادة قطر، وبسيادة أي دولة عربية أخرى قد تتوهم أنها بمأمن من الاستهداف.
العملية التي نُفذت في قطر ليست استثناءً في سلوك الكيان، بل امتداد طبيعي لعقيدة عسكرية قائمة على استخدام القوة خارج أي التزام قانوني أو أخلاقي، والرسالة الأعمق التي تحملها هذه العملية هي أن الكيان الصهيوني لا يتوقف عند حدود جغرافية، ولا يحترم دولة مهما كانت علاقاتها معه، طالما رأى في ذلك خدمة لأهدافه السياسية أو الأمنية.
ومما يزيد من خطورة هذا التحول، أن العدوان وقع في سياق صراع سياسي دقيق يخص المفاوضات بين فصائل المقاومة الفلسطينية والوسطاء الإقليميين، وهو ما يشير إلى نية إسرائيل في تقويض أي جهود دبلوماسية، بل واستهدافها بشكل مباشر.
لا يمكن فصل هذا التطور الخطير عن الدور الأمريكي، الذي لطالما منح الكيان الصهيوني غطاءً سياسياً وعسكرياً. وقد أثبتت التجارب أن كثيراً من العمليات النوعية التي ينفذها الكيان، خصوصاً في دول أخرى، لا تحدث بمعزل عن التنسيق أو التغاضي الأمريكي. وتاريخ الإدارات الأمريكية، خصوصاً إدارة ترامب، حافل بسياسات شجّعت إسرائيل على تجاوز كل الخطوط الحمراء.
إن ما حدث في الدوحة لا يمكن قراءته فقط من زاوية التنفيذ الإسرائيلي، بل يجب أن يُنظر إليه كجزء من شراكة عدوانية أوسع، يتكامل فيها الدور الأمريكي مع الدور الإسرائيلي في زعزعة استقرار المنطقة.
منذ سنوات، قدّمت اليمن- رغم ظروفها الصعبة- نموذجاً لوعي مبكر بخطورة المشروع الصهيوني، ورفضاً قاطعاً لأي شكل من أشكال التطبيع أو التخلي عن القضية الفلسطينية. هذا الموقف لم يكن دعائياً أو ظرفياً، بل قائم على إدراك عميق لطبيعة الكيان الصهيوني كأداة استعمارية توسعية تهدد الأمن القومي العربي والإسلامي ككل.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذا التحذير اليمني لم يكن مبالغاً فيه، فما حدث في الدوحة اليوم قد يحدث في أي عاصمة عربية غداً، إذا ما استمرت حالة التفكك والتراخي في مواجهة الخطر الصهيوني المتصاعد.
بات من الواضح أن بقاء الكيان الصهيوني بدون ردع، معناه تعميم الفوضى والاعتداءات في كل مكان، إن أمن المنطقة العربية لم يعد مجرد شأن وطني خاص بكل دولة، بل بات ضرورة جماعية لا تحتمل التأجيل. والمطلوب الآن ليس فقط إدانة شكلية للعدوان، بل تحرك عربي وإسلامي مشترك يرتقي إلى مستوى الأفعال على الأرض، ويتجاوز حسابات المصالح الضيقة.
فما حصل في قطر ليس سوى نموذج لما يمكن أن يتكرر في دول أخرى إذا استمرت سياسة التغاضي والرهان على التفاهم مع عدو لا يعترف بشيء سوى بمنطق القوة والغلبة.
لقد دقّت إسرائيل ناقوس الخطر من قلب الدوحة، وأعلنت عملياً أن لا احترام لأي سيادة عربية، وأن التطبيع ليس ضماناً للأمن. والمطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، هو جبهة عربية موحدة، تعيد تعريف الأولويات، وتضع مواجهة الكيان الصهيوني في صدارة التحديات، قبل أن تتسع رقعة العدوان وتتحول العواصم العربية إلى مسارح مستباحة.