وفي هذا السياق، كشفت وكالة "رويترز" عن سلسلة إخفاقات ومشاكل تقنية ولوجستية تعرقل جهود البنتاغون والبحرية الأمريكية في بناء أسطول من المركبات البحرية المسيرة، والذي يفترض به أن يكون جزءاً من استراتيجية التكيف مع التهديدات الحديثة. وتأتي هذه الإخفاقات في وقت بالغ الحساسية، حيث كشفت معركة البحر الأحمر– التي شكل فيها اليمن نقطة ارتكاز في استهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية– عن فجوة خطيرة في قدرات الردع الأمريكية. إن العجز عن تطوير بنية فعالة للمركبات البحرية المسيرة لا يفضح فقط قصوراً تقنياً، بل يُظهر أيضاً أن الهيمنة الأمريكية بدأت تتآكل أمام حركات المقاومة التي باتت تُجيد استثمار ساحة البحر، كما البر، في فرض معادلات جديدة.
المشهد في غزة لا يمكن وصفه إلا باعتباره فصلاً جديداً من فصول الإبادة الجماعية، لكن هذه المرة عبر تفكيك ما تبقى من البنية الصحية. إذ لم تعد الحرب تقتصر على قتال مسلح، بل دخلت مرحلة ممنهجة من التجويع والحرمان الطبي، ما يضاعف الكارثة الإنسانية، ويدفع بالقطاع نحو الانهيار الشامل. غير أن ما يثير الألم حقاً ليس فحسب وحشية الاحتلال، بل الصمت الرسمي العربي، وتراجع مركزية القضية الفلسطينية في وعي العرب والمسلمين.
تمر ذكرى إحراق المسجد الأقصى بدون أن تثير في النفوس شيئاً من الغضب أو الوجع. لم تعد المقدسات تمثل خطاً أحمر، كما لم يعد القتل في غزة يحرك ساكناً، فالأمة فقدت بوصلتها، أو تكاد. فمع مرور الوقت، تحول النسيان إلى استراتيجية رسمية، وتغافل الشعوب إلى عادة، وهي حالة شلل جماعي تنذر بفتح الطريق أمام المشروع الصهيوني للتمدد بدون مقاومة تذكر.
من موقعه المساند المتقدم، يخرج قائد أنصار الله، عبدالملك الحوثي، برسائل محورية، تضع الأمة من جديد أمام مسؤولياتها التاريخية، وهذه الدعوة ليست فقط شعوراً عاطفياً، بل ذات مضامين استراتيجية، إذ تربط بين استمرار النفير في اليمن، والتهيؤ لمعركة كبرى عنوانها "وعد الآخرة". وفي هذا السياق، يبدو أن اليمن- رغم جراحه وحصاره- بات هو الذي يملك زمام المبادرة، ويعيد رسم خارطة الاصطفاف في المنطقة.
لم يعد اليمن تلك الساحة المنهكة في الهامش الجغرافي والسياسي، بل أصبح رأس حربة في مشروع تحرري عابر للحدود، ففي زمن انكفأت فيه كثير من العواصم، تحوّلت صنعاء إلى منبر سياسي وعسكري يواجه إسرائيل وأمريكا من البحر إلى البر. إن دعوات القتال والتحريض على النفير، ليست مجازية، بل متصلة بسياق ميداني حقيقي، يتمثل بعمليات في البحر الأحمر، دعماً لغزة، وحضوراً في معادلة الردع الإقليمي.
لسنا أمام أحداث متفرقة، بل أمام لوحة متكاملة تشي بأن المنطقة تتجه نحو مرحلة إعادة التشكل. على أحد الجوانب، هناك معسكر التطبيع والانبطاح، الذي لا يرى في إسرائيل عدواً ولا في أمريكا خطراً. وعلى الجانب الآخر، هناك محور مقاومة تتبلور أركانه، وقد بات اليمن عموده الصلب. ومن هنا، فإن مآل الأمة لن يُحدد فقط بموازين القوى، بل أيضاً بقدرتها على استعادة الوعي، وتحديد بوصلتها، والالتحام بمشروع تحرري حقيقي، يقوده من لا يخشون إلا الله.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد انكسار عابر، بل مفصل تاريخي يُعيد فرز المعسكرات، ويُسقط الأقنعة. وفي وقت تتراجع الإرادة الرسمية والشعبية العربية، ينهض صوت من اليمن ليحمل شعلة المقاومة والتذكير بالمسؤولية الدينية والإنسانية تجاه فلسطين والقدس. وبين التخاذل والنفير، ستُكتَب فصول هذه المرحلة، ومن استجاب لنداء الهداية والجهاد والتحرر اليوم، فهو الذي سيصنع النصر غداً.