وبحسب الصحيفة العبرية، فإن منظومة “آرو” الاعتراضية المتطورة تشهد تآكلًا خطيرًا في قدراتها، مع اقتراب مخزونها من النفاد نتيجة الاستخدام المكثف، ليس فقط خلال المواجهة الأخيرة مع إيران، بل أيضًا بفعل الهجمات المتكررة التي شنتها جماعة "أنصار الله" الحوثية خلال العام الماضي.
هذا الاعتراف الإسرائيلي، على محدودية حجمه الظاهري، يكشف عن تحول نوعي في موازين الاشتباك الإقليمي. فبينما ظلت تل أبيب لعقود تعتقد أنها محصّنة بفضل قبتها الحديدية وذراعها الصاروخي والهجومي، فإن الواقع الجديد يشي بأن عقيدة الردع بدأت في التآكل، لصالح معسكر ينتمي إلى ما تسميه "محور المقاومة"، والذي أثبت قدرته على الضغط من المحيط وليس فقط من الجبهات التقليدية كلبنان أو غزة.
ـ من الهجوم الشامل إلى الاستنزاف المُمنهج:
اللافت في هذا التطور أن صواريخ صنعاء وطهران لا تُطلق بكثافة عبثية، بل يبدو أنها جزء من استراتيجية استنزاف محسوبة. إذ يشير مراقبون عسكريون إلى أن أنصار الله، على وجه الخصوص، اعتمدوا خلال العام المنصرم نمطًا من الهجمات المتباعدة زمانيًا، لكنها دقيقة ومفاجئة، تستهدف مواقع ذات طابع حساس، وتُرغم الدفاعات الإسرائيلية على استخدام صواريخ اعتراضية باهظة الكلفة.
فمثلًا، يبلغ ثمن صاروخ "آرو 3" الاعتراضي أكثر من 3 ملايين دولار، بينما لا تتجاوز تكلفة الصاروخ الباليستي أو المسيّرة التي تطلقها صنعاء أو طهران بضع عشرات الآلاف. هذه المعادلة الاقتصادية المختلّة تُحوّل كل ضربة من الحوثيين أو الإيرانيين إلى نزيف استراتيجي لإسرائيل.
ـ أين فشلت المنظومات الدفاعية؟:
فشل الدفاعات الإسرائيلية لا يرتبط فقط بكمية الهجمات، بل أيضًا بطبيعتها. إذ إن الهجمات الأخيرة—سواء من اليمن أو إيران—جمعت بين مسيرات منخفضة التحليق، وصواريخ كروز، وصواريخ باليستية متوسطة وبعيدة المدى، وهو ما أربك المنظومات الإسرائيلية التي تعتمد على تصنيف وتوجيه سريع للأهداف، في حين فشل النظام الدفاعي الأمريكي-الإسرائيلي المشترك في مجاراة هذا النمط المعقد من الهجمات.
كما أن الكثير من هذه الهجمات لم يتم اعتراضها، بل أصابت أهدافًا في عمق الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي أضعف صورة الردع التي لطالما سوّقت لها إسرائيل على المستوى الإقليمي والدولي.
ـ صنعاء لم تعد على الهامش:
إدراج صنعاء في المعادلة الإقليمية بهذه الفاعلية يؤشر إلى تحول غير مسبوق في موقع اليمن الجيوعسكري. فبعد أن ظلت الحرب اليمنية تُفهم في سياق محلي ضيق، ها هي صنعاء تُصدّر حضورها نحو العمق الإسرائيلي، متحدية بذلك ليس فقط الدول الإقليمية، بل حتى مظلة الحماية الأمريكية.
ويعني ذلك أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام جبهات متعددة غير تقليدية: من الشمال (لبنان وسوريا)، ومن الشرق (إيران والعراق)، والآن من الجنوب البعيد، عبر البحر الأحمر والجزيرة العربية. وهو ما يُجبر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على إعادة التفكير في خارطة التهديدات.
ـ عندما تسقط "المناعة التكنولوجية":
في ضوء هذه التطورات، فإن الحديث عن "الجيش الذي لا يُهزم" أو عن "قبة حديدية لا تُخرق"، لم يعد صالحًا للاستهلاك حتى داخليًا. لقد كشفت الهجمات اليمنية والإيرانية، بوسائل توصف بأنها "أقل تطورًا"، عن هشاشة مفاجئة في بنية الدفاع الإسرائيلي.
الأكثر إثارة، أن هذا الاعتراف جاء من داخل الصحافة الإسرائيلية، ما يعكس تنامي القلق في النخبة الأمنية والعسكرية من اتساع الهوة بين الإنجازات التقنية والتحديات الفعلية التي باتت تُفرض على الأرض.
إنها لحظة تحوّل: حيث تتحوّل أدوات المقاومة من رمزية إلى تأثير عملي، وحيث يخوض أضعف الخصوم حرب توازن استنزافي ضد أقوى الجيوش، ويتركه في حيرة من أمره... وصواريخه.