ما كان يُفترض أن يكون استعراضًا للهيمنة البحرية الأمريكية تحوّل إلى كابوس لوجستي واستراتيجي، حيث لا تقتصر التحديات على الجانب العسكري فقط، بل تمتد إلى أبعاد اقتصادية واستخباراتية وسياسية، تضع واشنطن أمام أسئلة صعبة حول مدى قدرتها على احتواء هذا التهديد دون الغرق في مستنقع استنزاف طويل.
أزمة واشنطن لا تقتصر على التكاليف العسكرية أو على السفن التي لم تعد تأمن عبورها، بل تمتدّ إلى ما هو أخطر: انهيار سردية التفوّق المطلق، ووقوع أقوى بحرية في العالم داخل فخّ استراتيجي صاغته جماعةٌ مسلّحةٌ لا تمتلك حتى سفن حربية واحدة
هذا التقرير، المستند إلى تحليل عسكري نشره موقع MCA Marines، التابع لسلاح مشاة البحرية الأمريكي، يكشف تفاصيل الأزمة التي تواجهها الولايات المتحدة في البحر الأحمر، ويضعها في سياق أوسع يعكس التحولات العميقة في ميزان القوى العالمية، حيث لم تعد القوة العسكرية المطلقة كافية لفرض النفوذ أو تأمين الممرات البحرية الحيوية.
في تقرير عسكري تحليلي نشر موقع MCA Marinesوهو موقع تابع لسلاح مشاة البحرية الامريكي حيث يكشف التقرير عن أزمة حقيقية داخل سلاح مشاة البحرية الأمريكي فيما يتعلق بتعامله مع جماعة الحوثيين في البحر الأحمر، التي نجحت، بقدراتها المحدودة، في فرض تحدٍّ استراتيجي غير مسبوق على البحرية الأمريكية وان ما يميز هذا التحدي هو أنه لا يأتي من دولة تمتلك أسطولًا بحريًا، ولا من قوة عسكرية كبرى، بل من قوة صاعدة ناشئة ولكنها أثبتت قدرتها على خوض حرب بحرية فعالة دون الحاجة إلى أسطول متكامل أو تفوق تقني.
التحديات التي فرضها الحوثيون على البحرية الأمريكية وحلفائها
تمثل عمليات الحوثيين نوعا جديدا من الحروب البحرية، حيث تعتمد على تكتيكات غير تقليدية وأسلحة غير مكلفة لكنها مؤثرة... التقرير يشير بوضوح إلى أن الحوثيين تمكنوا من فرض تكاليف باهظة على البحرية الأمريكية، التي أصبحت مجبرة على استخدام أنظمة دفاعية مكلفة لاعتراض طائرات مسيرة وصواريخ يتم تصنيعها محليًا أو تُعدل من منظومات قديمة. فبينما يمكن للحوثيين إطلاق طائرات مسيرة بتكلفة بضعة آلاف من الدولارات، فإن البحرية الأمريكية تعتمد على منظومات صاروخية مضادة تكلفتها تصل إلى ملايين الدولارات للصاروخ الواحد. هذا التفاوت في التكلفة يشير إلى أحد أهم مبادئ الحروب غير المتماثلة، حيث يمكن لجماعة محدودة الموارد أن تستنزف قوة عظمى باستخدام وسائل زهيدة الثمن لكنها فعالة.
التأثير على التجارة العالمية
التقرير يوضح أن الحوثيين، رغم أنهم لا يمتلكون أسطولًا بحريًا، تمكنوا من التأثير على حركة التجارة الدولية بشكل ملحوظ. حيث تشير البيانات إلى أن 30% من حركة الحاويات العالمية تأثرت بشكل مباشر نتيجة للهجمات التي شُنت في البحر الأحمر، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل والشحن والتأمين، وهو ما انعكس على أسعار السلع عالميًا. السفن لم تعد قادرة على الإبحار بحرية عبر هذا الممر الاستراتيجي دون المخاطرة بالتعرض لهجوم، ما أجبر العديد من الشركات على اتخاذ مسارات بديلة حول رأس الرجاء الصالح، وهو ما يزيد من زمن الرحلات وتكاليف التشغيل.
التحدي الاستخباراتي الأمريكي
تطرق التقرير إلى أحد أهم أوجه القصور في سلاح مشاة البحرية الأمريكي، وهو عدم التركيز الكافي على الاستخبارات العسكرية، رغم أن التهديد الحوثي يعتمد بشكل أساسي على العمل الاستخباراتي والرصد المستمر لتحركات السفن الحربية والتجارية. الحوثيون استطاعوا، رغم إمكانياتهم المحدودة، تطوير منظومة استخباراتية ورصد بحري تمكنهم من تحديد الأهداف بدقة، بينما يعاني المارينز من نقص في التركيز المؤسسي على الاستخبارات. التقرير يشير إلى أن قيادة المارينز قلّصت من دور الاستخبارات ضمن بنيتها التنظيمية، حيث لم تعد هناك إدارة مستقلة للاستخبارات ضمن مختبر القتال الحربي للمارينز، مما يجعل القوات غير قادرة على تحليل الخصوم بعمق واستباق تحركاتهم. هذا النقص يترك القوات الأمريكية في وضع دفاعي دائم بدلًا من أن تكون قادرة على التعامل بفعالية مع التهديدات الناشئة.
التحليل العسكري لتكتيكات الحوثيين
يتناول التقرير تفاصيل التكتيكات التي استخدمها الحوثيون في البحر الأحمر، والتي تعكس فهمًا استراتيجيًا متطورًا للحرب البحرية. فمن خلال استخدام الطائرات المسيرة، والصواريخ الباليستية المضادة للسفن، وصواريخ كروز الساحلية، نجح الحوثيون في فرض منطقة تهديد واسعة النطاق دون الحاجة إلى سفن حربية.
واحدة من أبرز العمليات التي سلط التقرير الضوء عليها كانت عملية السيطرة على السفينة "جالاكسي ليدر" في نوفمبر 2023، حيث استخدم الحوثيون طائرة مروحية لإنزال قوة هجومية على متن السفينة والاستيلاء عليها. هذه العملية، رغم بساطتها، تعكس قدرة الحوثيين على تنفيذ عمليات مركّبة تتطلب تخطيطًا دقيقًا وتنسيقًا عالي المستوى، وهي مهارة نادرًا ما تُرى في جماعات مسلحة غير نظامية.
كما تحدث التقرير عن حادثة استهداف السفينة "MV True Confidence" التي كانت تحمل علم بربادوس، حيث أدى الهجوم الحوثي إلى وقوع أول ضحايا بشرية في هذا النزاع البحري. التقرير يشير إلى أن هذه الهجمات قد تكون جزءًا من استراتيجية محسوبة تهدف إلى تصعيد الضغط على الشركات المالكة للسفن والمشغلين البحريين، لإجبارهم على إعادة النظر في مرور سفنهم عبر البحر الأحمر.
التكلفة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة
التقرير يكشف أن استمرار العمليات العسكرية ضد الحوثيين يفرض أعباء مالية هائلة على البحرية الأمريكية، حيث تُنفق ملايين الدولارات يوميًا على تشغيل السفن الحربية المنتشرة في البحر الأحمر، مع استخدام مكثف لمنظومات الدفاع الجوي باهظة الثمن لاعتراض الطائرات والصواريخ القادمة من اليمن. هذا الاستنزاف المالي والعسكري يثير تساؤلات حول مدى استدامة هذه العمليات، خاصة في ظل غياب استراتيجية واضحة للقضاء على التهديد الحوثي أو حتى احتوائه بشكل فعال.
البعد السياسي والاستراتيجي
لم يغفل التقرير البعد السياسي في الصراع، حيث أشار إلى أن الحوثيين استفادوا من الانقسامات بين الحلفاء الغربيين في ما يتعلق بالحرب في غزة، وهو ما أتاح لهم هامشًا أوسع للمناورة السياسية والعسكرية. الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، لم يظهر حماسًا كبيرًا لمواجهة الحوثيين عسكريًا، حيث تركز مواقف العديد من الدول الأوروبية على ضرورة تهدئة الأوضاع في المنطقة بدلاً من تصعيدها.
كما أشار التقرير إلى أن الصين، رغم أنها تمتلك مصالح اقتصادية ضخمة في البحر الأحمر، لم تتدخل ضد الحوثيين، وهو ما قد يشير إلى وجود تفاهم ضمني أو على الأقل عدم رغبة بكين في الدخول في صراع من شأنه أن يعزز من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة. هذا الأمر يمنح الحوثيين ميزة استراتيجية، حيث يمكنهم الاستمرار في عملياتهم دون خوف من رد فعل دولي واسع النطاق.
مستقبل المواجهة في البحر الأحمر
التقرير يختتم بتحليل مستقبل النزاع في البحر الأحمر، متسائلًا ما إذا كان الحوثيون يسعون إلى "السيطرة البحرية" الكاملة أم أن هدفهم يقتصر على فرض "النفوذ البحري". من الواضح أن الحوثيين لم يصلوا بعد إلى مستوى القدرة على فرض سيطرة تامة على الممرات البحرية، ولكنهم نجحوا في جعل البحر الأحمر منطقة غير آمنة للسفن التجارية والعسكرية الغربية، وهو إنجاز استراتيجي بحد ذاته.
وفي ظل عدم وجود حلول عسكرية فعالة حتى الآن، يشير التقرير إلى أن البحرية الأمريكية قد تجد نفسها في وضع حرج إذا استمر الحوثيون في تطوير تكتيكاتهم واستخدام أسلحة أكثر تطورًا. فالتحدي هنا لا يكمن فقط في التهديدات المباشرة التي يشكلها الحوثيون، بل في التكاليف الباهظة التي يتكبدها التحالف الدولي
يختتم التقرير انه إذا لم تتوصل الولايات المتحدة إلى استراتيجية جديدة أكثر كفاءة في التعامل مع الحوثيين، فمن المحتمل أن يستمر الاستنزاف الحالي، مما قد يؤدي في النهاية إلى إعادة تقييم جدوى العمليات العسكرية في البحر الأحمر. وحتى ذلك الحين، يبدو أن الحوثيين مستمرون في فرض معادلتهم الخاصة، مجبرين البحرية الأمريكية على لعب دور دفاعي في واحدة من أهم الممرات البحرية في العالم.