في تسعينيات القرن "العشرين"، سمعت من المدير التنفيذي لإحدى الشركات الغربية، أن رئيس مجلس إدارتها "مالكها" طلب منه الإعلان عن حاجة الشركة إلى تعيين موظفين جدد بها، رغم أن الشركةـ في ذلك الوقت ـ كانت تعاني من مشاكل مالية أدت إلى تأخير صرف الرواتب للعاملين وسدادها لهم لاحقا بالتقسيط.
وعندما سأله منتقدا طلبه، قال إن شركاء محتملين، يريدون مشاركته وإنه يريد أن يبيع لهم "الشكل" (أي مؤسسته المكتظة بالعاملين) وليس "المعنى/الفحوى" الذي كان مترهلا وعلى وشك الإفلاس والانهيار.
مالك المؤسسة -هنا- اتكأ على معنى "الحداثة" بالممارسة في عالم المال والأعمال، وليس على خلفية فلسفية تلقاها في قاعات الدرس. وبدون أن يقرأ -مثلا- كتاب "الاختباء في الضوء" لـ"ديك هيبيدج" الذي وصف الحداثة -وما بعدها- بأنها "مجرد كلمة رنانة من دون أي مضمون".
لذا لن يكون مفيدا، حال ظلت "الحداثة" بضاعة صالونات النخبة والمنصات المخملية لأصحاب الياقات البيضاء "المثقفين"، وفي بروجها المسيجة بالإبهار اللفظي وطقوسها داخل "كهنوت الصفوة"، لأن ذلك سيحرم الناس، من تحري المناعة أو الحصانة من إحساسها بـ"الدونية" والسحق وما يترتب عليه من الاستسلام وإلحاقهم بتروس ميكنة الاستهلاك المعولم وتسليعهم وإحالتهم إلى محض "حافظة نقود" مستسلمة لرغبات السوق. والأخير يتجاوز -هنا- معناه المتعارف عليه ليشمل الاقتصاد والثقافة والسياسة والعلاقة بالأرض والتاريخ والهوية.
لطالما كان من بين شرط ولوج العرب والمسلمين إلى الحداثة الغربية -التي لا يفهمها الناس- التخلي عن "هوس" الارتباط بالأرض، من خلال لغة تحايلية ومراوغة عند "برنارد لويس"! تعززها رؤية الأميركي "توماس فريدمان" الذي يسوق لفكرة أن العالم بات "مسطحا" بكل ما يعنيه ذلك من تنازلات طوعية يقتضيها السوق والمصالح المتبادلة بين أطراف العالم المختلفة على صعيد الأرض والهوية والخصوصيات الحضارية، وهو المعنى الذي حمله عنوان كتابه الأكثر مبيعا "The World is Flat"، زاعما أن ذلك يجعل العالم أكثر سلاما: (عالما بدون حروب).
تأتي هذه "الحداثة" بطبعتها الأميركية، مثقلة بعقدة "الهوية والأرض" وترى أن المصالح الاقتصادية هي التي تهدد فحوى الهوية وقوة الجغرافيا. وهي على تناقض حاد مع الحداثة في نسختها الأوروبية التي ما انفكت تكابد مشقة كبيرة في التخلص من القلق الثقافي بشأن هويتها "المسيحية اليهودية" وسؤال المستقبل بشأن لمن ستؤول إليه في النهاية صكوك ملكية الأرض. وهو القلق الذي فرضه عليها التنامي السريع لـ"الإسلام الرمزي" داخل أوروبا.
لذا شددت المدرسة الأوروبية على انتقاد فريدمان، وأكدت على أن "العالم مستدير" وليس مسطحا، كما كتب "جون غراي"، وهو أستاذ سابق في مدرسة الفكر الأوروبي في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وأشار ضمنيا إلى أن العالم ليس "واحدا/مسطحا" عندما انتقد اعتماد الولايات المتحدة على التعذيب في نزع اعترافات المشتبه بهم في الإرهاب. وقال "غراي" في مقابلة له مع مجلة "032c" إن ما يثير الاهتمام ليس العودة إلى استخدام التعذيب، بل احتضان الليبراليين له ودفاعهم عنه".
الحداثة هناك في أميركا وهنالك في أوروبا، تستخدم لتبرير المظلة الأخلاقية لـ"العدوانية الغربية" في عمومها التي استباحت العالم، والقلقة من أن تؤول أرضها في النهاية من العرق الأبيض المسيحي العجوز إلى المهاجرين الجدد من المسلمين الأكثر خصوبة وشبابا وإنجابا.
وفي تلك (أميركا) وتلكم (أوروبا)، تقوم الحداثة في قوامها الأساسي على "الداروينية" التي تحولت من نظرية في "التطور البيولوجي" إلى "عقيدة سياسية" توسعية.
ولا نغالي إن قلنا إن حداثة الغرب المعاصر، بكل تجلياتها السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية، هي في واقع الحال صناعة داروينية محضة، بمعنى أنها وليدة منطق القوة والصراع والبقاء للأصلح والأقوى، حتى في التفاصيل "الأنيقة" التي تتخفى خلف أكثر شعاراتها نعومة وجاذبية.
وفي تقديري، لن يلج الإنسان "الجديد"، مرحلة التحرر من هذا "الرق/العبودية" المخلقة داخل حضانات الجدل الفلسفي المعزول عن الإنسان نفسه، إلا إذا أنزلنا "الحداثة" من عليائها ليكون الإنسان ذاته في علاقة "ندية" معها أو أن تتحول من "اللاوعي" بطقوسها النخبوية الغامضة ولغتها التحايلية المراوغة إلى الوعي الشعبوي مفككة في تفاصيلها المطمورة خلف اللفظ "المسَمَن" أو المعمار المحقون بالدهون والسيليكون "الإبهار".
أن يعرف الناس أنها لعبة "الثلاث ورقات" وأن الأقوى هو الذي يصنع المعنى ويكتب التاريخ. أن يكتشف الناس معناها في أية علاقة لهم مع المؤسسات والأفكار والأسواق والمدن والجامعات الخاصة والهايبر مولات والعوالم الافتراضية والمنتجعات المخملية المعزولة عن المجتمعات التراحمية التي يعيش فيها الناس العاديون.
لأنه إذا كان ثمة أزمة "وعي" معوقة لفهمنا للعالم اليوم فإن هناك أزمة أكبر وأخطر لاحقا، لأننا كما يقول هانزي فرايناخت في كتابه "The Listening Society": "في مرحلة الانتقال إلى اقتصاد ما بعد الصناعة والروبوتية والرقمية" وهي مرحلة "الصندوق الأسود" والعمى والتيه الذي لا عودة منه. وحينها كما يقول " لن ينقذك فيلسوفك المفضل، حتى لو كان تشارلز ساندرز بيرس نفسه".
فهمنا للحداثة على نحو ما تمنيت آنفا، قد يعزز قدرتنا على عدم الوقوع في شرك الخديعة التي تحيكها لنا. ففي مقال له بـ"التايم" يقول "برونو ماسياس" ـ وزير الدولة البرتغالي للشؤون الأوروبية السابق ـ إن الحداثة تستهدف "خلق عالم لا تجد فيه الرغبات أي مقاومة خارجية" ولأجل ذلك فإنها تنتزع هذه الرغبات إما بـ"السحق/القوة" أو بـ"الإبهار الناعم": قوة الشكل لا قيمة المعنى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة