مع عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى النشاط موخرا في سوريا وظهور تطورات أمنية واضحة في الساحة السورية، يعود التساؤل بقوة حول موقع دول الخليج من هذا الخطر، فعودة التنظيم لم تعد مجرد تقدير أو احتمال بل واقع تؤكده أحداث ميدانية وضربات عسكرية متبادلة إلى جانب حديث متزايد عن فراغات أمنية استثمرها التنظيم لإعادة تحريك شبكاته، غير أن هذا التطور لا يمكن فصله عن السياق الأوسع المتعلق بالتجربة الخليجية مع التطرف السني والتي ارتبطت تاريخيا بسياسات دينية واجتماعية امتدت لعقود، وربط عدد من الباحثين تلك السياسات وبين نشوء بيئات ساهمت في انتشار التشدد.
واليوم وفي ظل تحولات فكرية ورسمية تشهدها دول الخليج، يطرح السؤال: هل نجحت هذه التحولات في تجفيف البيئة التي سمحت سابقا بتمدد التنظيمات المتطرفة وتحويل دول الخليج إلى خط دفاع فعلي أمام عودة داعش؟ أم أن عودة التنظيم تفرض إعادة النظر في مدى عمق وفاعلية هذه التحولات؟
منذ مدة أعاد تصريح رئيس الوزراء القطري الأسبق “حمد بن جاسم آل ثاني” حول مخاطر تفكك الدولة السورية، وانعكاساته المباشرة على دول الخليج، فتح ملف ظل مؤجلا لسنوات، فرغم الجدل الواسع الذي أثاره التصريح في حينه، طرح سؤالا لم يفقد راهنيته: ماذا يعني انهيار سوريا فعليا للأمن الخليجي؟
تاريخ الصراع السوري يقدم إجابة مقلقة، فمنذ اندلاع الأزمة عام 2011 تحولت سوريا إلى أكبر ساحة استقطاب للمقاتلين الأجانب في التاريخ المعاصر ومختبرا مفتوحا لتلاقح الأيديولوجيات الجهادية العابرة للحدود، عشرات الآلاف من المقاتلين تدفقوا إلى الداخل السوري من بينهم أعداد معتبرة من دول الخليج مدفوعين بخطاب ديني مسيّس صوّر الصراع على أنه مواجهة مذهبية وجودية في مقابل تدخل فصائل شيعية مسلحة دعما للنظام.
في هذا السياق يرى الكاتب البحريني “جعفر سلمان” أن تراجع خطر داعش في دول الخليج لا يعود إلى انحسار أفكاره، بل إلى تراجع قدرته على الفعل نتيجة الضربات التي تلقاها في العراق وسوريا ومقتل وسجن عدد كبير من عناصره وقياداته. غير أن ” سلمان” يحذر في الوقت ذاته من اعتبار هذا الخطر منتهيا، مشيرا إلى أن الأفكار لا تزال قائمة لدى بعض الأفراد وتُغذّى بين الحين والآخر، وأن عودة التنظيم إلى النشاط في بيئات غير مستقرة كالساحة السورية تمنحه فرصا للاستفادة من الفراغات الأمنية، حتى وهو يعمل في الظل”.
ويكتسب هذا التحذير أهمية خاصة إذا ما نُظر إلى التهديد من زاوية ما بعد القتال، فالمعضلة الأساسية لا تكمن في سنوات الصراع ذاتها بل في ارتداداته طويلة الأمد وعلى رأسها ملف المقاتلين العائدين، هؤلاء بما راكموه من خبرات قتالية وشبكات عابرة للحدود، يشكلون أحد أخطر التحديات الأمنية لدول الخليج في حال تفكك الدولة السورية أو انهيارها، خاصة في ظل إرث جهادي متجذر في المنطقة يمتد من أفغانستان إلى العراق واليمن وصولا إلى سوريا، حيث أعادت الحرب إنتاجه بأشكال أكثر تنظيما وعنفًا.
في المقابل يشير الكاتب المختص في جماعات الإسلام السياسي والفكر الديني “وحيد الغامدي” إلى أن دول الخليج ولا سيما المملكة العربية السعودية حققت تقدما ملموسا في تفكيك السرديات الفكرية التي استخدمها داعش لتبرير العنف، مثل مفاهيم الخلافة والحاكمية والتكفير. ويستشهد “الغامدي ” بتجارب عملية من بينها برامج إعادة التأهيل التي طورتها رئاسة أمن الدولة والتي أعادت تعريف مفهوم العقوبة من الاحتجاز إلى المعالجة الفكرية والتهيئة للاندماج المجتمعي.
غير أن ” الغامدي” يربط هذا النجاح أيضا بتحولات أوسع شهدها المجتمع الخليجي معتبرا أن التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أسهمت في نزع الجاذبية الرمزية لفكرة “الجهاد العابر للحدود”. فالترفيه وتوسيع فرص العمل، والتحولات في نمط الحياة كلها عوامل ساعدت في تقليص البيئة التي يمكن للأفكار المتطرفة أن تنمو داخلها، وإن كان يؤكد أن هذا المسار لا يزال بحاجة إلى عامل الزمن لضمان استدامته.
بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 عاد ملف المقاتلين الأجانب في سوريا إلى صدارة النقاش الأمني بوصفه أحد أكثر الملفات تعقيدا وحساسية في مرحلة ما بعد الصراع، ولا تتوافر حتى الآن أدلة علنية تؤكد وجود أعداد كبيرة من المقاتلين الخليجيين داخل الأراضي السورية، غير أن مصير من تبقى منهم يظل مفتوحا على احتمالات متعددة من بينها بقاء بعضهم ضمن خلايا تابعة لتنظيم داعش أو التزامهم الصمت والاختفاء، أو عودة بعضهم إلى بلدانهم الأصلية دون إعلان، وفي جميع الحالات يبقى هذا الملف قائما لا سيما مع عودة نشاط تنظيم داعش ومحاولته إعادة التموضع في بيئات غير مستقرة.
ومن أجل مقاربة هذا الملف في سياقه الأوسع لابد من العودة إلى مرحلة تشكله بالأرقام والمعطيات. فمنذ اندلاع الصراع السوري تحولت سوريا إلى واحدة من أكبر ساحات استقطاب المقاتلين الأجانب، وتشير تقديرات دراسات غربية إلى أن أعداد هؤلاء بلغت عشرات الآلاف وبلغت ذروتها بين عامي 2014 و2015 حين قفزت من نحو 12 ألف مقاتل إلى ما يقارب 31 ألفا قدموا من 82 دولة وفقا لتقرير صادر عن مجموعة صوفان الأميركية ، وتصدرت تونس قائمة الدول المصدرة للمقاتلين بنحو ستة آلاف، تلتها السعودية بتقديرات تراوحت بين 2500 و3000 مقاتل، فيما ظلت أعداد القادمين من بقية دول الخليج محل تباين واختلاف بين المصادر.
هذا الاستقطاب ولا سيما من دول الخليج لم يكن معزولا عن سياقه السياسي والديني، بل جاء نتيجة مباشرة لدعوات علنية للجهاد أطلقتها جهات دينية عابرة للحدود أبرزها مؤتمر علماء المسلمين والمجلس التنسيقي الإسلامي العالمي في القاهرة عام 2013، الذي دعا إلى “النفور والجهاد بالمال والأرواح في سوريا” ، وقد تعزز هذا الخطاب لاحقا بدعوات أطلقها دعاة بارزون من بينهم الشيخ السعودي “محمد العريفي” إضافة إلى دعوة “يوسف القرضاوي” للجهاد في العام ذاته.
ميدانيا انخرط المقاتلون الخليجيون في سوريا ضمن تنظيمات متعددة وأسهم هذا الانخراط في إنتاج كوادر قتالية ذات خبرة عالية، صعد عدد منها إلى مواقع قيادية داخل تنظيم داعش، من أبرزهم البحريني “تركي البنعلي” مفتي التنظيم وأحد منظريه الشرعيين، الذي قُتل عام 2017، ومحمد إموازي المعروف بـ”جون الجهادي”، وهو بريطاني الجنسية من أصول كويتية (يطلق عليهم ‘البدون’). ارتبط اسمه بعمليات الإعدام المصورة، إضافة إلى السعودي “بندر الشعلان”، الضابط السابق في الأجهزة الأمنية الذي لعب دورا محوريا في التجنيد وحشد التمويل، إلى جانب أسماء أخرى تولت مناصب شرعية وتنظيمية داخل التنظيم.
ولم تبق تداعيات هذا الانخراط محصورة في الساحة السورية بل انعكست مباشرة على الأمن الداخلي لدول الخليج. فقد تزامنت مشاركة مواطنين خليجيين في القتال مع تنفيذ عمليات إرهابية داخل عدد من دول المجلس، أبرزها تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت عام 2015 الذي أسفر عن مقتل 27 شخصا، إضافة إلى تفجيرات استهدفت مساجد شيعية في القطيف والدمام في السعودية و الأحساء في العام ذاته في إطار حملة طائفية تبناها تنظيم داعش. وتؤكد هذه الوقائع أن ملف المقاتلين الخليجيين سواء من تبقى منهم في ساحات القتال أو من عادوا من مناطق الصراع، لا يزال يشكل تحديا أمنيا قائما تتجاوز تداعياته حدود سوريا إلى عمق الأمن والاستقرار الخليجي.
في الإمارات صدرت خلال سنوات سابقة أحكام غيابية تراوحت بين الإعدام والسجن بحق مواطنين ثبت انضمامهم إلى تنظيم داعش. وفي السعودية اتخذت السلطات مسارا مماثلا حيث نُفذت أحكام إعدام بحق عدد من المنتمين إلى داعش، على خلفية تورطهم في التنفيذ أو التخطيط لجرائم إرهابية “داخل الأراضي السعودية” .
غير أن هذه الإجراءات، على أهميتها، لا تُغلق الملف بالكامل، إذ تظل مسألة العائدين من مناطق الصراع أحد أكثر الجوانب حساسية وتعقيدا. فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ما إذا كان جميع من عادوا من ساحات القتال قد خضعوا لمحاكمات قضائية؟
وفي حديثه عن قدرة دول الخليج على تحجيم الفكر الداعشي داخل مجتمعاتها، يقول “جعفر سلمان” إن المواجهة لم تقتصر على البعد الأمني وحده بل اتخذت طابعا مزدوجا جمع بين الإجراءات الأمنية والمعالجة الفكرية، ويشير “سلمان” إلى برامج أُطلقت ولا سيما في المملكة العربية السعودية استهدفت المغرر بهم في قضايا الإرهاب وعملت على إعادة تفكيك قناعاتهم الأيديولوجية وإعادتهم إلى مسار الاعتدال.
ويؤكد أن هذا النهج لم يكن حصرا على السعودية، بل طُبق بدرجات متفاوتة في أكثر من دولة خليجية ، وبرأيه، فإن الاقتصار على الأدوات الأمنية دون مرافقتها بحلول فكرية لا يكفي لأن الأفكار لا تُقمع بالقوة وحدها بل تحتاج إلى معالجة تقلل من جاذبيتها وانتشارها.
من جهته يرى “الغامدي” أن نجاح دول الخليج في تحصين مجتمعاتها من الفكر المتطرف مرهون بوجود استراتيجية واضحة وطويلة النفس تترافق مع إصلاح عميق للبيئة الدينية، يشمل التقييم المستمر لخطباء المساجد والمعلمين والعمل الخيري. ويذهب “الغامدي” إلى أن مثل هذه الاستراتيجية إذا ما نُفذت بجدية واستمرارية، قد لا تحتاج أكثر من جيل واحد لإحداث تحول حقيقي يجعل البيئة الاجتماعية أكثر مناعة أمام الأيديولوجيا الجهادية، ويستند في هذا التفاؤل إلى قراءة تاريخية ترى أن معظم الأيديولوجيات التي اجتاحت المنطقة في مراحل سابقة انتهت أو هي في طريقها إلى الاندثار، معتبرا أن الفكر الجهادي ليس استثناء في زمن التحولات السريعة وظهور أجيال أكثر وعيا وقدرة على طرح الأسئلة النقدية.
ويضيف ” الغامدي” أن الجهود الفكرية لا تقتصر على البرامج الأمنية والتربوية بل تشمل مبادرات ذات طابع رمزي وثقافي أوسع، مثل “وثيقة مكة” التي وقع عليها أكثر من 1200 عالم من مختلف دول العالم الإسلامي.
ويرى أن هذه الوثيقة بما تحمله من مضامين وبنود بلغت 29 بندا تمثل فرصة حقيقية لمعالجة حالة الانسداد الثقافي والفكري في العالم الإسلامي، رغم أنها لم تحظَ بالاهتمام الإعلامي والنقاش المجتمعي الذي تستحقه. وفي رأيه، فإن إحداث قطيعة حقيقية مع سياق العنف وإنتاج التطرف يتطلب إلى جانب السياسات والإصلاحات عاملا زمنيا يسمح بترسيخ التحولات وضمان استدامتها، مؤكدا أن هذا الزمن قد يكون أقصر هذه المرة في ظل التسارع التقني والتغيرات الاجتماعية المتلاحقة.
المصدر:
الحرة