كتب المؤرخ والمحامي الفرنسي نيكولا بافريز أن الخطة الأميركية للسلام في أوكرانيا وإستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي تمثل أكثر بكثير من مجرد منعطف جيوسياسي، ورأى فيها قطيعة تاريخية وإعلانا لنهاية الغرب.
وفي عموده بصحيفة لوفيغارو، يطرح هذا الكاتب رؤية متشائمة حادة لمصير الغرب، معتبرا أن العالم يشهد قطيعة تاريخية كبرى تتمثل في تفكك المنظومة الغربية التي هيمنت على النظام الدولي منذ القرن الـ15، وفي انهيار التوازن الذي أُرسِي بعد عام 1945.
ويرى المؤرخ أن السياسات الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب ، لا سيما مقاربته للحرب في أوكرانيا، وتقاربه مع روسيا، وتراجعه عن الالتزامات الأمنية في أوروبا، شكلت العامل الحاسم في تسريع هذا التحول، محققة ما كان الرئيس السوفياتي جوزيف ستالين يحلم به، وما تطمح إليه قوى استبدادية مثل روسيا والصين اليوم من إضعاف الغرب من الداخل وتفكيك وحدته.
ويذكر الكاتب بأن فكرة أفول الغرب ليست جديدة، إذ سبق أن تحدث عنها الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر بعد الحرب العالمية الأولى ، قبل أن يعيد الغرب بناء نفسه من خلال الدور الأميركي الحاسم في هزيمة الأنظمة الشمولية، وإعادة إعمار أوروبا، وترسيخ الديمقراطية الليبرالية.
غير أن هذا المسار -كما يقول بافريز- انعكس في العقود الأخيرة، رغم الخطاب المتفائل عن "نهاية التاريخ" وانتصار اقتصاد السوق، حيث دخل الغرب مرحلة تفكك سياسي واقتصادي وإستراتيجي، ترافقت مع تراجع وزنه الديمغرافي والاقتصادي على الصعيد العالمي وصعود قوى آسيوية كبرى في مقدمتها الصين والهند.
ويشير بافريز إلى أن العالم بات اليوم أكثر خضوعا للأنظمة الاستبدادية، التي تسيطر على غالبية سكانه وعلى جزء وازن من اقتصاده، وتسعى إلى فرض نظام دولي جديد قائم على عقلية مناطق النفوذ والقوة لا على القواعد والمؤسسات.
وتقع المسؤولية الأساسية عن هذا التحول -حسب رأي الكاتب- لا على صعود هذه الأنظمة وحده، بل على أزمات الديمقراطيات الغربية نفسها، عندما أخفقت بعد عام 1989 في تثبيت نظام دولي مستقر، وانزلقت إلى أوهام نهاية الصراعات الكبرى، في حين كانت تعاني في الداخل من تآكل الطبقات الوسطى، وتراجع النمو، وصعود الشعبوية .
ويعتبر الكاتب أن الموجة الشعبوية، التي بدأت مع "خروج أوروبا من الاتحاد الأوروبي" ( بريكست ) وانتخاب ترامب، بلغت ذروتها مع عودته إلى الحكم، حيث دخلت الولايات المتحدة طور "الديمقراطية غير الليبرالية"، وغيرت جذريا تموضعها الدولي، فباتت أقرب في ممارساتها وخطابها إلى الأنظمة الاستبدادية منها إلى حلفائها التقليديين.
أوروبا تواجه لحظة مصيرية، إذ لم يعد بإمكانها الاعتماد على المظلة الأميركية، وبالتالي عليها إما أن تقبل بالتبعية والتفكك في إطار صفقة كبرى بين القوى العظمى، وإما أن تعيد بناء نفسها كقوة ذات سيادة قادرة على الدفاع عن أمنها ومصالحها في عالم مضطرب
ووفق هذا المنظور، لم تعد أوروبا -كما يرى الكاتب- شريكا إستراتيجيا للولايات المتحدة، بل تحولت إلى خصم ضعيف، في الوقت الذي يجري فيه التعامل مع الصين وروسيا بمنطق تقاسم النفوذ.
وفي هذا السياق، يرى بافريز أن أوروبا تواجه لحظة مصيرية، إذ لم يعد بإمكانها الاعتماد على المظلة الأميركية، وبالتالي عليها إما أن تقبل بالتبعية والتفكك في إطار صفقة كبرى بين القوى العظمى، وإما أن تعيد بناء نفسها كقوة ذات سيادة قادرة على الدفاع عن أمنها ومصالحها في عالم مضطرب.
ويحدد الكاتب للخيار الثاني 3 أولويات أساسية، دعم أوكرانيا عسكريا وماليا على نطاق واسع، وتسريع إعادة تسليح أوروبا عبر تنسيق تقوده الدول الكبرى، ثم تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية من خلال إصلاحات عميقة.
ورغم نظرته المتشائمة، يخلص الكاتب إلى أن أوروبا، مهما كانت المخاطر الوجودية التي تواجهها، ما زالت تملك فرصة تاريخية لاستعادة دورها إذا ما أعادت الاعتبار لقيم الحرية والعقل التي شكلت أساس نهضتها وحضارتها.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة