لا شك أن حركة حماس تمر بأصعب وضع تاريخي منذ تأسيسها عام 1987، وقد يكون قرارها المتعلق بالموقف من خطة ترامب لوقف الحرب أصعب من مرارة الحرب التي خاضتها والشعب الفلسطيني على مدار عامين كاملين من الإبادة الجماعية والخذلان الدولي، لكن السياسة لا تتقبل العواطف.
كما أن حماس وإن كانت في مأزق إستراتيجي، فإن إسرائيل ذاتها في مأزق تاريخي لن تخرج منه كما كانت، أيا تكن الظروف، ومهما كانت السياقات والسيناريوهات.
قد يكون من الأفضل لحركة حماس وفصائل المقاومة إعلان موقف فوري عن "عدم إعاقة" تطبيق خطة ترامب لوقف الحرب على غزة وحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية، وفتح المجال أمام إغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بما يليق بتضحياته.
في المقابل يجب- وليس مطلوبا- ألا يتضمن موقف الحركة إعلانا مباشرا بالقبول بالخطة أو حتى رفضها، ليبقى ذلك الموقف هلاميا؛ فهي وغيرها من حركات المقاومة ليست ملزمة بأن يملى عليها ماهية الموقف الذي يجب أن تتخذه؛ لأن المطروح خطة وليس اتفاقا.
إن إعلان "عدم إعاقة" الاتفاق يتضمن رسالة واضحة: أن الحركة ليست ضد الإرادة العربية والدولية في وقف الإبادة، إضافة إلى أن وقف الإبادة هو مطلب الكل الفلسطيني قبل كل شيء، وهذا يشمل الطلب العاجل في ذات الموقف، إرسال الطواقم الفنية التي ستعمل على التفاصيل استنادا إلى حرص المقاومة على عامل الوقت الذي يعني في كل دقيقة ضحية جديدة، وحرصها على عدم إعاقة تطبيق هذه الخطة.
يتمثل موقف "عدم الإعاقة " في موافقة الحركة على المحددات الرئيسية للمرحلة المقبلة، وهي: وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، وإغلاق هذا الملف، وأن تؤكد حماس موافقتها على أنها لا تريد ولا ترغب بأن تكون جزءا من أية إدارة لقطاع غزة، مع اشتراط أن تكون تلك الإدارة الجديدة عملية وقابلة للحياة، وغير مهددة للسلم الأهلي وفق السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لقطاع غزة.
أما أن تكون هذه الإدارة مختلطة، بحيث تضم في قيادتها فلسطينيين من قطاع غزة وأجانب، فيجب- بأي حال من الأحوال- ألا تكون مشكلة أو تثير حساسية كبيرة، شريطة أن يكون ذلك جزءا من عملية انتقالية وليس إدارة دائمة، وأن يربط الموقف الفلسطيني بين كل ما سبق، والطلب الواضح أن تتضمن إحدى المراحل انتخابات ديمقراطية وشفافة يحترم نتائجها المجتمع الدولي.
تأكيدا لموقف تقليل الحساسية من وجود بعض القيادات الأجنبية في إدارة قطاع غزة، فذلك ليس غريبا على الحالة الراهنة لسببين:
بالتالي فإن القطاع حاليا محكوم ويدار بتلك المؤسسات الدولية بشكل عملي ولا دور يذكر سواء للحكومة في رام الله، أو الحكومة السابقة في قطاع غزة التي تستهدف قوات الاحتلال أي تحرك مدني لها على الأرض.
لذلك فإن الموقف المنطقي في هذا البند، هو التأكيد على أن تكون هيئات الأمم المتحدة شريكا أصيلا في إدارة المرحلة المقبلة، وهذا موقف ستدعمه كثير من الدول؛ يعني ذلك أنه عطفا على موقف عدم الإعاقة، فإن الطلب المباشر، هو دور أصيل لهيئات الأمم المتحدة في إدارة هذه الخطة.
من المؤكد أن هذا الموقف سيكون مجالا للتشكيك إسرائيليا وأميركيا، لكن يجب أن يكون واضحا أنه وفقا للبروتوكولات المطروحة، فإن خطة ترامب لا تتضمن اتفاقا بل مسمى خطة، ويوجد فرق كبير بين مسمى خطة، ومسمى اتفاق.
أنت تطرح خطة كطرف ثالث- إن جاز لنا بروتوكوليا أن نعتبر الأميركان طرفا ثالثا- الأمر الطبيعي أن تتوافر خيارات متعددة في التعبير عن الموقف تجاه هذه الخطة، ومنها الحد الأدنى المطلوب من الطرف المقابل، وهو التعبير عن عدم إعاقة تطبيق الخطة.
أما لو طُرح الأمر بشكل مختلف، وهو خيار التوصل إلى اتفاق ثنائي، كما في جولات الحروب السابقة مع قطاع غزة، فعندها يصبح لازما تقديم موقف واضح بالرفض أو الإيجاب. لكن أن تُطرح خطة وليس اتفاقا، وتتضمن إلغاء الطرف الآخر، واعتباره غير موجود، ثم يطلب موافقته على هذه الخطة، فهذا غير منطقي على الإطلاق!
إن القاعدة الرئيسية التي يجب على المقاومة في قطاع غزة أن تأخذها بعين الاعتبار في قرارها، هي أن السمة المميزة للعلاقات الدولية في منطقة "الشرق الأوسط"، عدم احترام الاتفاقيات والتعهدات والالتزامات، وسادة هذا النهج في العالم، الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، لا سيما في ظل اهتزازات النظام الدولي ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وهذه ميزة ومثلبة في ذات الوقت على الأقل في هذه المرحلة التي لا يستطيع حتى من يديرونها التنبؤ بها؛ ومخطئ تماما من يعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تسيران وفق توجهات إستراتيجية واضحة في إدارة المنطقة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والاستنزاف الكبير لكل الأطراف في هذه الحرب.
إن ما يجب التذكير به في خضم كل هذه المواجهة غير المسبوقة، هو أن إسرائيل لم تحسم أي ملف منها طوال عامين، لا ملف غزة، ولا ملف الضفة الغربية، ولا ملف لبنان، ولا ملف سوريا، ولا ملف إيران، ولا حتى ملفات بعيدة كملف اليمن، ولن تحسم أي ملف منها أو غيرها في المستقبل.
ستبدأ أزمات إسرائيل الداخلية والخارجية، إذ إن تداعيات الحرب عليها فور انتهائها أكثر بكثير مما جرى خلالها، بينما يتطلب ذلك فلسطينيا البناء على الزخم الدولي الذي لا فضل فيه لأحد إلا لدماء أطفال ونساء غزة التي أحدثت التحول الجذري الذي يتطلب جهدا ضخما وممنهجا لاستدامته.
كما أن عنوان المرحلة المقبلة من الصراع، هو المناصرة الدولية في قضية الفصل العنصري؛ إذ توجد ركيزتان أساسيتان في الكود الأخلاقي الغربي لرواية وصورة إسرائيل: الهولوكوست والديمقراطية، أما الأولى فقد أنهاها وسم الإبادة، والثانية ينهيها وسم الفصل العنصري.
إن القضية الفلسطينية أمام منعطفات تاريخية وصعبة وقاسية جدا في مواجهة المنظور الإسرائيلي "للحسم التاريخي" للصراع على الأرض، لكنها في المقابل أمام فرص غير مسبوقة أنتجتها أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من حرب إبادة مريرة أخرجت القضية الفلسطينية من تابوت التصفية والإنهاء الكامل إلى فضاءات لم يعد بالإمكان تجاوزها إذا ما أحسن الفلسطينيون وداعموهم استثمارها في المرحلة المقبلة.
وفي النهاية لن تستقر هذه المنطقة إلا بحل عادل للشعب الفلسطيني، ولن تستطيع أي قوة شطب تاريخ ورواية ومقاومة وحياة الشعب الفلسطيني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.