في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- بينما يخلع الناس حولنا خيامهم هربا من حمم النيران الإسرائيلية المنهمرة عليهم، وتلقي الطائرات فوق رؤوسنا المناشير تأمرنا بإخلاء مدينتنا عنوة، كانت أمي تمسح الغبار عن أثاث "الدار" الذي كان باكورة صنيع والدها، النجار الأشهر في حي المنشية في مدينة يافا المحتلة، قبل أن تهجّره إسرائيل إلى مدينة غزة ، حيث بدأ فيها بتأسيس تجارته من الصفر!
على وقع المدافع تنفض الفراش بتؤدة، ترتب الوسائد ثم تستكين عليه بعد يوم مُجهد، تستنشق فيه رائحة يديْ والدها وتتحسس بصماته عليه، تتخذ من حدود دارنا وطنا لها كأنه لا قيامة خارجها، أفكّر بثباتها، هل هو الانفصال عن الواقع؟ أم رفض التصديق بأن شيئا سينتزعها من هذا المكان!
مرّت أيام على هذا المشهد، اقتربت الدبابات أكثر، زرع جيش الاحتلال روبوتات قريبة دخلت إلينا نارها وأصابت دارنا شظاياها، صار البقاء تهلكة، كنا وحدنا مع قلائل في حيّنا شمال حي الرمال غرب المدينة.
صاحب المولد الكهربائي الذي كان يمدّنا بالطاقة سحب معداته جنوبا، وشركة الإنترنت كذلك، كما لم يكن ممكنا لعمال البلدية الوصول لمنطقتنا المصنفة "حمراء" لإمدادنا بالماء، ونقلت البسطات أماكنها بعيدا، كما أغلقت المحال أبوابها، أصبحنا في الحي وحدنا بلا أي شيء يعيننا على البقاء فيه!
كان حي الرمال وتل الهوا الهدفين القادمين في خطة الاحتلال، بعدما سيطر بالنار على عدة أحياء شمال وشرق وجنوب المدينة، حيث يتعامل مع هذه الأحياء على أنها خاضعة لسيطرته، يمنع التحرك فيها ويُسقط الأبنية على رؤوس الباقين فيها بدون إنذار، وبهذا فهو يتمكن من خلق مكان طارد لا يصلح لعيش الآدميين، فتزيحهم النار وتدفعهم للنزوح ولترك منازلهم قسرا.
بعد أكثر من 20 يوما من المحاولة للبقاء أكثر، والفشل في اتباع سياسة المناورة التي اتبعناها حين بقينا في الشمال المرة الأولى، حيث كنا نُناور المحتل على شاكلة "القط والفأر" يدخل غربا فنهرول شرقا، ويقترب منا فنبتعد عنه، ينسحب من مكان فنعود إليه، وبعد أن كان لدينا بيوت لمعارف وأصدقاء ليسوا في غزة ففتحوا لنا بيوتهم لنحتمي بها دون تردد، بتنا اليوم محاصرين من جميع الاتجاهات، ويضيّق الخناق علينا من الشرق والشمال والجنوب.
أمام هذه الحيرة والتيه، كان قرارنا حاسما بأن البقاء اسمه انتحار، غير أن سؤال طفلي "ماما ليش بتعملي فينا هيك؟!" دفعني للحسم مع قرار أبي بعد صلاتي الاستخارة والحاجة التي صلّاها مرارا، واهتدى بعدها لضرورة النجاة بمن تبقّى.
وبينما نحن في أعلى درجات الحنق والعجز كان هناك عجز من نوع آخر، هنا حيث تجلس أمي في منتصف بيتها الأثير، وحولها حقائب خالية، عليها أن تعبئها بما يعزّ عليها من أثاث وملابس وأوراق وأوانٍ، وذكريات أعوام قضتها في هذا المكان، تسألنا نظراتها وهي تجوس بعينيها على كل زاوية في البيت "كيف أختزل 50 عاما في حقائب؟!" لكن لا أحد يجيب، فكلنا غرقى في وحل الإجابة!
تتمتم أمي "يا رب ما لنا غيرك، يا رب ما تطلعنا من بيوتنا بمعجزة من عندك"، تحبس الدمع في عينيها، كعادتها في كل شدة، تعرف أن الإفراج عن دمعها يعني الزج بنا في قفص الانهيار، لكنني أسمع صوت نهش النار لقلبها وأبصر حريقها!
أما أنا فأخوض معركة المفاضلة بين ما يمكن الاستغناء عنه وما لا يمكن، إلى أن وصلتُ لحقيبة زوجي الشهيد الثقيلة على الظهر والقلب!
كنت أدخر ملابسه، وبعضا من أثره لطفليه حين يكبران، هل أتركها أم أحملها؟! هل سنحيا ويكتب الله لي رؤيتهما رجلين يرتديان ملابس أبيهما الأنيقة، أم هل ستموت الحقيبة مع موت البيت إن قتلوه، كما قتلوا صاحب الحقيبة سابقا.
إنها الليلة الأخيرة التي سأنامها على صدر حبيبتي غزة، لكنني لم أنم! كيف لي أن أضيع آخر الساعات فيها غافلة عنها؟ تواسيني صديقاتي يحاولن إقناعي "كلها أراض في الوطن، البحر ذاته والهواء ذاته"، لكني أرفض الاقتناع مطلقا، فلا يخيل إلي أن شيئا يمكن أن يشبه مدينتني.
أريد حبس هوائها في صدري، أريد أن أعبئ ذاكرتي بما يسعفني يوم حنيني إليها، أريد أن أحفظ تفاصيل جمال وجهها، لأواجه به تفاصيل قبح البعد عنها.
قضيت الليل وقوفا على شُرفتي، أسمع صوت خفق قلب المدينة، أتخيلها ممدة في تابوت مفتوح تحتضر، يُصدر جهاز المراقبة الموصول بقلبها طنينا ثقيلا يسير ببطء، كلما خلت من أنفاس أبنائها اختنقت أكثر!
تعتريني حالة شعورية غريبة، تتجاوز شعوري بأن غزة إنسان متيَّمة أنا به، إلى شعوري بتقمص ألمها وارتجافها واختناقها وأنينها ونحيبها، لا أعرف إن أطلق لها علماء النفس اسما، أم أنها طفرة نادرة.
أشعر بإنهاك الحوائط حولي، لا تستطيع البوح، لكن تصدعها يشرح حالتها، بلاط الدار لم يعد مستويا، كأن زلزالا ضرب أوتادها، أتى الخريف قبل أوانه، يُخيل إلي أن غزة شجرة تضربها ريح طاغية تسقِط من حضنها أبناءها بلا هوادة.
حان وقت الخروج، يطوي والدي درجات السلم طيّا ثقيلا، ينزل عتبة عتبة، يذرف عرقه على كل واحدة منها، عَرقا يشبه ذلك الذي كان قد ذرفه في عقود عمره السبعة من أجل أن ينهض بالبنيان أكثر، يهوي عليه بلا شيء يحمله سوى قهر يقدح في عينيه كالشرر، وفي يمينه مفاتيح 6 طوابق بناها بشق النفس، بعدما خسر بيّارته شمال غرب المدينة سابقا.
أثناء نزوله يردد "في حفظ الله"، يلوّح بكفه كأنه يحصن البيت، لكنني كنت أراه بقلبي يطرح عليه السلام ونظرة الوداع.
في طريق بُعدي عن المدينة، ظل خنجر ينغرس في صدري كلما قطعت مسافة أكبر، أشعر بخيانتي لها، وفي لحظة أرّقني الهدوء، لقد وصلتُ إلى وادي غزة، الفاصل بين المعركة الطاحنة في الشمال والأخرى الأقل وطأة في الجنوب.
نزحت إلى خان يونس جنوب القطاع، وجُل من كنت أعرفهم فيها من الأصدقاء أضحوا شهداء، أقف على شرفة مأواي وأنا أعرف أنني لم آمَن المصير وأنها ليست النهاية، أقف وأبعَد ما تسقط عليه عيناي هو الشمال المحاصر المقتول، أرى أعمدة الدخان على امتداده، نارا تأكله وتأكل قلبي الذي تركته فيه!