في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
قالت الدورية الفرنسية لوموند ديبلوماتيك إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أوحت بشن حملات تطهير في صفوف وكالات الاستخبارات التي اتهمها الرئيس الجمهوري بالسعي لتقويضه من خلال تأجيج ما سماها فبركات "روسيا غيت".
وترى لوموند ديبلوماتيك أن التوترات الدولية، وتنامي دور العمليات السرية والتقنيات المتطورة لا تسمح للرئيس ترامب بتهميش دور وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) لصالح وزارة الحرب ( البنتاغون ) في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية.
وسلطت الدورية في عددها الشهري الحالي (سبتمبر/أيلول) الضوء على التنافس بين جهازي الاستخبارات والجيش في تشكيل الدور الأميركي الخارجي منذ إنشاء "سي آي إيه" في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
ومنذ ذلك التاريخ، رسخت الوكالة ومقرها لانغلي بولاية فرجينيا، غير بعيد عن العاصمة واشنطن، نفوذها على حساب أجهزة أخرى بينها الشرطة الفدرالية، التي انتزعت منها مسؤولية التجسس في أميركا اللاتينية، ثم مكتب الاستخبارات التابع لوزارة الخارجية، الذي تضاءل نفوذه بسبب حملة التطهير المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، توضح لوموند ديبلوماتيك.
لكن الوكالة ظلت في تنافس شديد مع البنتاغون رغم أن الخط الفاصل بين المؤسستين كان واضحا نظريا منذ عام 1952 تاريخ إنشاء وكالة الأمن القومي الملحقة بالبنتاغون.
وبناء على ذلك الفصل، ظلت الاستخبارات البشرية من اختصاص "سي آي إيه"، بينما آلت للجيش مهمة التخابر بالإشارات الإلكترومغناطيسية والعمليات الميدانية التقليدية.
لكن على المستوى العملي، لم تكن الحدود دائما واضحة بين الجهازين، ذلك أن "سي آي إيه" اكتسبت، تحت ستار "الحرب النفسية"، خبرة شبه عسكرية واسعة في كوبا وإيران وأفغانستان وغيرها.
أما في زمن حرب فيتنام ، فقد أنشأ البنتاغون عام 1961 وكالة استخبارات بشرية خاصة به وذلك لكسر احتكار "سي آي إيه" ونقض تقييماتها التي اعتُبرت متشائمة للغاية بشأن فعالية التصعيد العسكري.
وأوضحت الدورية الفرنسية أن مفهوم الاستخبارات يختلف بين الجهازين، إذ تعتبرها "سي آي إيه" أداة دبلوماسية وإستراتيجية بينما يرى فيها البنتاغون أداة دعم عملياتي.
ويعكس ذلك الاختلاف أيضا طبيعة الجذور الاجتماعية لكل مؤسسة، ذلك أن "سي آي إيه" لها طابع أرستقراطي وجل موظفيها من البيض وتجند مديريها التنفيذيين من النخبة الأكاديمية وشركات المحاماة الكبرى ولها علاقات طويلة الأمد مع الشركات متعددة الجنسيات وشركات النفط الكبرى، والتي كانت أحيانا جناحها المسلح كما حدث أثناء الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953، بحسب الصحيفة.
على العكس من ذلك -تتابع لوموند ديبلوماتيك- لا تزال المؤسسة العسكرية منصة لترقي الطبقة المتوسطة وينحدر حوالي 30% من المنتسبين للجيش من الأقليات العرقية وكل الضباط تدربوا في أكاديميات عسكرية مجانية. وبمجرد تقاعدهم، غالبا ما ينضمون لإدارة الشركات الكبرى، خاصة في صناعة الأسلحة.
وهناك فرق آخر بين الجهازين من حيث قنوات النفوذ الخاصة، إذ تعتمد "سي آي إيه" على اللجنة الخاصة بالاستخبارات في مجلس الشيوخ، وعلى مجلس العلاقات الخارجية (وهو معقل الأممية الليبرالية وينشر مجلة الشؤون الخارجية "فورين أفيرز")، أما البنتاغون فيعتمد على لجنتي القوات المسلحة في مجلس الشيوخ ومجلس النواب، بالإضافة إلى مؤسسة "راند" البحثية، توضح الصحيفة الفرنسية.
وخلف ذلك التجاذب البيروقراطي، تكمن رؤيتان للهيمنة الأميركية، ذلك أن البنتاغون يميل لأسلوب استعراض القوة التقليدية وسباق التسلح، في حين تفضل "سي آي إيه" عمليات زعزعة الاستقرار وشن "حروب صغيرة" هامشية.
بدا أن الحرب في أفغانستان رسّخت "اتحادا مقدسا" بين البنتاغون و"سي آي إيه"، لكن غزو العراق عام 2003 أعاد الخلافات للواجهة، إذ اتهم رامسفيلد "سي آي إيه" بالتباطؤ في البحث عن أدلة من شأنها تبرير الغزو الذي كان البيت الأبيض والبنتاغون قد قرراه مسبقا
ورصدت الدورية الفرنسية أهم المحطات التاريخية للصراع بين "سي آي إيه" والبنتاغون والذي بلغ ذروته في عهد الرئيس جيرالد فورد (1974-1977)، حيث وقّع هنري كيسنجر، الشخصية الوصية على الاستخبارات ومهندس الوفاق مع الاتحاد السوفياتي ، أولى الاتفاقيات التي تحد من الترسانات النووية، لكن صقور البنتاغون فرضوا خبرات مضادة ونجحوا في تشكيل مجموعة مستقلة تُسمى "الفريق ب" داخل مقر "سي آي إيه".
ورغم انتهاء الحرب الباردة لم تخف حدة التوترات بين المؤسستين. فخلال حرب الخليج الثانية (1990-1991)، انتقدت "سي آي إيه" عدوانية القيادة العسكرية، ودعت للجوء إلى الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية؛ ومن جانبها، انتقدت قيادة الجيش الوكالة لتقديمها معلومات استخباراتية قليلة الفائدة ميدانيا، ولتركيزها المفرط على التحليل الإستراتيجي، وفقا للوموند ديبلوماتيك.
وحسم الرئيس جورج بوش الأب (1989-1993)، الذي كان عضوًا في الفريق "ب" قبل أن يرأس "سي آي إيه"، ذلك الخلاف لصالح الجيش وبذلك أصبح البنتاغون رأس حربة السياسة الخارجية.
وفي المنحى نفسه، وسّعت إدارة الرئيس بيل كلينتون (1993-2001) نطاق عمليات البنتاغون السرية من خلال نشر قوات خاصة في الصومال وهاييتي والبوسنة، وحصرت "سي آي إيه" في مهام ثانوية.
وقد أثار ذلك التوجه بعض الانتقادات، لكن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في بداية عهد الرئيس جورج بوش الابن (2001-2009) وفرت الذريعة لعودة قدامى أعضاء الفريق "ب" إلى قمة الدولة: ديك تشيني أصبح نائبا للرئيس و دونالد رامسفيلد وزيرا للدفاع، وولفويتز نائبا لرامسفيلد.
وفي أولى العمليات الخارجية الكبرى، بدا أن الحرب في أفغانستان رسّخت "اتحادا مقدسا" بين البنتاغون و"سي آي إيه"، لكن غزو العراق عام 2003 أعاد الخلافات للواجهة، إذ اتهم رامسفيلد "سي آي إيه" بالتباطؤ في البحث عن أدلة من شأنها تبرير الغزو الذي كان البيت الأبيض والبنتاغون قد قرراه مسبقا، تبرز الصحيفة.
وخلال فترة رئاسة باراك أوباما (2009-2017)، تركز التنافس على استخدام المسيّرات في عمليات الاغتيال المستهدفة وأغلقت الإدارة رسميا سجون "سي آي إيه" السرية، لكنها كثّفت برنامج الاغتيالات عن بُعد، لا سيما في باكستان، وكانت الوكالة حينها متفوقة على البنتاغون بميزة تقنية هي استخدام المسيّرات.
ومع ظهور تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في اليمن اغتنم الجيش الفرصة لاتخاذ قرار الضربات الجوية بنفسه، لكن الإخفاقات والهفوات المتكررة دفعت البيت الأبيض إلى إعادة زمام المبادرة إلى "سي آي إيه" التي دبرت قتل زعيم التنظيم أنور العولقي ، وهو مواطن أميركي من أصل يمني، باستخدام مسيّرة في 30 سبتمبر/أيلول 2011، وفقا للصحيفة.
واتخذت الخلافات بين الطرفين لاحقا شكلا غير مسبوق حيث تواجها ميدانيا بشكل غير مباشر: ففي بداية عام 2016، أوردت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أنباء عن اشتباكات مسلحة بين مجموعات من المسلحين السوريين، بعضها مدعوم من "سي آي إيه"، وبعضها الآخر من البنتاغون.
لكن معادلة الصراع تلك -تتابع الصحيفة- بدأت تتحول في خضم صعود الصين وعودة القوة الروسية، حيث بدأ نموذج الحرب الباردة يعود إلى الواجهة كما يتجلى ذلك في الأزمة الأوكرانية وفي أزمة تايوان وفي ساحات أخرى، ولم تعد القوة تعتمد فقط على الميزانيات العسكرية الضخمة بل أيضا على مكتسبات التكنولوجيا الحديثة.
وفي هذا الصدد تنامى دور البرمجيات في الجيش وأصبح للمسؤولين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا نفوذ أكبر داخل القوات المسلحة. وقد كانت "سي آي إيه" سباقة في هذا المجال حيث اتخذت من وادي السيليكون مقرا لها منذ أواخر التسعينيات.
وبدأت تُمول تطوير التقنيات المزدوجة -المدنية والعسكرية- من خلال صندوقها الاستثماري الذي يقول إنه دعم 800 شركة، 32 منها من بين أفضل 100 شركة ناشئة في مجال الدفاع.
أما البنتاغون الذي كان في طليعة البحث التطبيقي، فقد وجد نفسه متخلفا عن تعاظم وادي السيليكون وثقافته الابتكارية الثورية. وتدهورت العلاقة بين الطرفين عام 2013 بعد فضيحة إدوارد سنودن وهو موظف سابق في "سي آي إيه" وأصبح متعاقدا مع البنتاغون قبل أن يكشف الكثير من برامج المراقبة الحكومية.
تنامى دور البرمجيات في الجيش وأصبح للمسؤولين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا نفوذ أكبر داخل القوات المسلحة. وقد كانت "سي آي إيه" سباقة في هذا المجال حيث اتخذت من وادي السيليكون مقرا لها منذ أواخر التسعينيات
ولاحظت الدورية الفرنسية أنه منذ إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترامب، انقلبت الأمور وتلاشت التحفظات بشأن الاستخدام المكثف للمسيّرات وتقنيات التعرف على الوجه في أوكرانيا وغيرها من الساحات، كما تعزز استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري والاستخباراتي ودخل على الخط عمالقة التكنولوجيا الأميركية.
وهكذا بدأ البنتاغون يلحق بالركب من خلال تجنيد رواد وادي السيليكون (ميتا، بالانتير، أندوريل)، والعديد منهم مرتبطون ارتباطا وثيقا أو غير مباشر بشركة إن-كيو-تيل (In-Q-Tel)، الذراع الاستثمارية لسي آي إيه.
وتوقف المقال عند الصعود الصاروخي لشركة بالانتير التي تأسست عام 2003 بتمويل أولي من إن-كيو-تيل، الذراع الاستثمارية لسي آي إيه والتي حصدت عقودا ضخمة لمعالجة البيانات لشركات متعددة الجنسيات، بالإضافة لمؤسسات عامة أميركية وأجنبية وهي أيضا شريكة للجيش الإسرائيلي، حيث تقدم له خدمات التعرف على الوجه لتحديد الأهداف في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتساءلت لوموند ديبلوماتيك عما إذا كان ترامب، كغيره من أسلافه تقريبا، رئيسا للحروب السرية وخلصت إلى أنه استوعب ثوابت القوة الأميركية: فهي لا تنتصر إلا في الصراعات السرية وعندما تجد حلفاء أو مساعدين يُقاتلون من أجلها.